للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وليس هذا بمانع من أن يقال: (إن الحياة العقلية إذا نضجت بين الشرقيين، فهي لاحقة بالتراث الشرقي أيا كان المصدر الذي جاءت منه أو حملت عنوانه)، مثل الفلسفة اليونانية كما نقلتها الحياة الشرقية إلى الشرق العربي؛ أو يقال: إن الحقيقة الطبيعية أو الرياضية منسوبة إلى العقل الناضج الذي كشفها - كنسبة قوانين الجذب العام إلى نيوتن - وإن كانت من (التراث الإنساني)

أما العقل فإننا إذا اعتبرناه عضواً في الإنسان، كعينه وأذنه وسائر أعضائه الظاهرة والباطنة، فهو ينضج كما تنضج بالبلوغ وتستحصف إلى الأربعين، وهو يؤدي وظيفته كما تؤدي وظائفها، وذلك منذ تميز الإنسان عن الحيوان في ظلمات الماضي الأقصى، بالنسبة إلى علمنا، من اللانهاية الزمنية، وإنما تميز بقدرة عقله على التصور والقياس والحكم. وعقل الإنسان (يعمل ويفكر، ويبحث فيما يراه ويحيط به، أيا كانت المسائل التي يتناولها بتفكيره وبحثه) منذ لم يكن له أي تراث في أي مكان؛ ولولا ذلك لما سما إلى مستوى هذه المدنية. فالسلامة البدنية والصحة النفسية تكفيان وحدهما أبداً لتصحيح العقل الذي يصيب ويخطئ، كما تخطئ العين وتصيب؛ وبين الأفراد تفاوت في حصافته الفطرية كتفاوت حدتها فيهم، ولكنه عقل ناضج بهذا الاعتبار على كل حال.

كان العقل الناضج هذا النضج في الإنسان (يعمل ويفكر فيما يراه ويحيط به) يوم كان صاحبه يعيش عيشه الوحوش المفترسة، ويخشى ظواهر الطبيعة التي يجهل كل شيء من أسرارها؛ ويوم أدرك ضرورة الحد من حريته الفردية الفوضوية، ويوم وضع نظماً للعائلة فالقبيلة، إلى آخر ما هنالك. وهذه مستويات تدرج الإنسان في الرقي إليها مع تدرج عقله الناضج في نضجه التطوري بما غذاه، في كل وقت، من تجاربه وتجارب سلفه وعمل عقولهم الإنسانية

ويتضح مما تقدم بيانه أن العقل باعتباره عضواً من الإنسان له نضجان: نضج أول هو قدرته على تأدية وظيفته الفطرية، وهو عام بين الأصحاء لا يحسن تأديتها إلا به: ونضج ثان هو إدراكه محصول أعمال العقول الإنسانية في زمان معين من حياة البشر مع قدرته على المشاركة في زيادة هذا المحصول أو تحسينه؛ فللعقل البشري في كل مستوى أعلى من مستويات العرفان العام نضج أتم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>