والسلطان؛ تأثر هؤلاء جميعاً إلا قليلاً منهم بهذه النزعة الشعبية الجمهورية؛ وكان منهم من مالأ العامة وسايرهم في اتجاهه خوفا منهم، وكان منهم من تسمم عقله فعلاً، وفسد تصوره لحقائق القرآن الصحيحة، واعتقد ما اعتقده العامة فيها
نزل هؤلاء وهؤلاء على حكم الشعب، فلم يقاوموا هذه النزعة فيه، بل سايروه فيها وزينوها له، وأخذوا يدافعون عنها كأنما يدافعون عن حق يتوقف عليه بناء الدين ويرتفع به شأن الإسلام والمسلمين. وإذا ما دعا داع إلى استقبال القرآن ككتاب هداية وإرشاد وتشريع، تناولوه بالألسنة والأقلام، واتهموه بالزيغ والالحاد، والتضليل والإفساد؛ والله يعلم المفسد من المصلح، والمضل من المرشد، أنه عليم بذات الصدور!
أما الحكام الذين طغت عليهم هذه النزعة وبيدهم مقاليد الأمور والتشريع للبلاد، فقد توهم بعضهم أن الكتاب بعيد عن مجاراة الحضارة والتشريع الحديث، وأنه لا يفي بحاجات العقول المفكرة والأمم المتحضرة!
نعم يوجد من بين هؤلاء من يفهم حقيقة القرآن، وأنه لا يضيق صدره عما يقتضيه التطور الحديث من تشريع وتنظيم، ولكنه يخشى سلطان هؤلاء العامة من جهة، ويؤثر أن يجاري هؤلاء العلماء من جهة أخرى، لئلا يتهموه بالمروق ومعاداة القرآن، فلذلك تراه لا يحب أن يعقد بينه وبين هذه الموضوعات الشائكة صلة، ولا يشاء أن يمد يده ليضعها في أيدي المصلحين ليطالبوا بالرجوع إلى شريعة القرآن والنزول على حكم القرآن.
وأنه لما يحز في قلوب المؤمنين الصادقين أن هذه الفكرة قد طغت على أذهان كثير من أهل الحكم والنيابة عن الأمة، حتى صاروا يعتقدون عدم كفاية التشريع القرآني لتنظيم شؤون الأمة ومعالجة أمراضها الاجتماعية!
ويبيحون لأنفسهم أن يلجأوا إلى التشريعات الأجنبية، فيستمدوا منها ما ينظمون به شئون المسلمين: في المدنيات والجنائيات والآداب العامة
وهكذا هانت على المسلمين أحكام القرآن، بل هانت على المشتغلين بها أنفسهم، ولم يقدروا قيمتها العلمية والعملية حق قدرها، فضعفت هممهم عن دراستها وموالاة النظر فيها والانتفاع بها، وصاروا يكتفون منها بالقليل، واستساغوا لكرامتهم أن يفروا من التحصيل والعكوف على العلم بكل ما يستطيعون، وأصبحوا يؤدون ما يؤدون من ذلك في الحدود