على أرباب متفرقين. . . كذلك سيحل الإيمان بوحدة الإنسان مشاكل وعقداً مستعصية، وتوجه به لأمم وجهة واحدة هي وجهة الخير المشترك، بدل الخير المتفرق الضيق الأناني، ووجهة العلم الباني المعمر، بدل العلم المخرب المدمر. . .
لقد كان منطق الفرقة والتنازع العنيف بين الناس معقولا في الأزمنة الماضية التي كان بين الأمم فيها حواجز سميكة من الجهالة والأسفار الطويلة، واللغات المجهولة، والثقافات المختلفة إلى حد التناقض. . . وكان دور تحكيم الغرائز لا بد منه لحمل ذلك الإنسان الجاهل على التسابق العنيف إلى كشف بقاع الأرض المجهولة، وتلقى منافعها الضائعة إذ لم يكن له علم وعقل يغنيانه عن الغريزة. وكان الاختلاف الحاد بين الناس معقولا لأنه لم يكن هناك أفق عقلي أو علمي أو عملي مشترك بين أمة وأمة متجاورتين بله المتباعدتين، ولم تكن الظروف لتسمح بوجود ذلك الأفق المشترك إلا عن طريق الحرب التي كانت وحدها هي الوسيلة الوحيدة للاختلاط بين المتفرقين، والتعارف بين المتجاهلين. . .
أما الآن فقد صار هذا التفرق والتنازع ضارا بالجميع قاطعاً للعلاقات التي تنمو في وقت السلم نموا عظيما غزيراً لم يكن له مثيل في العصور الأولى. . . وصارت العودة إلى تحكيم الغرائز ارتداداً وانتكاساً في الحياة كانتكاس الرجل الحليم إلى غضب الطفولة الذميم، إذ قد صار في يد الإنسان من أدوات الهلاك والدمار أشياء فظيعة تهدم الحياة من أساسها وتسحق براعم نموها وتجعل العمل للحياة، والسعي لها بعد الحرب عبثاً لا طائل تحته ما دامت الحرب تأتى بعد ذلك لتأكل الأخضر واليابس ولا تبقى ولا تذر
وقد ثبت الآن أن كل ما يصل إليه العلم من أدوات السيطرة والتغلب على قوى الطبيعة وأدوات ترف الحياة ومباهجها يتحول إلى أدوات دمار وإبادة إذا ما ثارت بالأمم ثورة الحرب وبراكين الحقد الدفين. . . فلا أمان على الحياة من شيء مع غضب الإنسان. وقد عاد شعار الجاهلية القديم الذي كان يهتف به المحاربون القدماء؛ وهو تلك الصيحة: يا منصور أمت!
وقد كانت الأديان والأخلاق قد جعلت للحرب في العصور المتوسطة قوانين فيها بقيا غلى مناطق نمو الحياة؛ وفيها ذكرى للود القديم والدم والنسب وصلة العلم والفن والعمران، وكانت الحرب تجد لها في وقت احتدامها ما يخفف آلامها من نبل الفروسية، ورحمة