للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ألمه؛ فهو لا يزال مضطرباً، عاجزاً عن بيان ما يشعر به في قرارة نفسه. . . وهو لا يزال يشكو ولا يعقل أن يكون سبب شكواه ضعفاً في رجولته وهو ابن البادية. . . إذن لعل في أسلوب شكواه والعبير عن آماله نقصاً. . . أنه لكذلك فراح يبحث عن لغة جديدة ينفث بها آلامه وأماله فتهدأ نفسه، فكان الشعر لغته الجديدة، وكان شفاء علته، وكان لسان الروح ولسان القلب.

ما أروع الشعر! لقد خلق نفسه خلقاً، بل لقد خلقته حاجة النفس البشرية إلى تنظيم مشاعرها، ومنذ عرف الشعر أصبح ترجمان القلوب، ولغة النفوس، ينتقل بك من عالم القيد إلى عالم الخيال، وتجد أنت في ذلك لذة لا تدري كنهها، ولا تعلم مصدرها، ولكنك برغم ذلك تحبها وتود السبح في سمائها الحالمة، والشعر يغمر نفس الشاعر وجدانا موزوناً نغماً

يولد الشاعر والشعر في روحه سر من اسرارها، لا يظهر إلا إذا انتظمت مشاعره، ولكنه لا يتقيد بسن ولا بزمن، وقد تفاوت مواعيد ظهوره بتفاوت نفوس الشعراء واستعدادها لتنظيم حياتها بطبيعة النظام الشعري الكامن فيها، فمن الشعراء المفطورين من يتمادى به العمر قبل أن يقول الشعر، ومنهم من تشع نفسه إشعاع الشعر، وهي في أيام الصبا الندية. . . ليس معنى هذا أن ملكة الشعر تقبر طيلة هذه الفترة الخامدة في نفس الشاعر، بل أنها لتظهر ولكن في صور أخرى كأن يميل صاحب النفس الشاعرة في طفولته إلى اللعب المنظم وجمع الصور الملونة والى سماع الموسيقى، وفي شبابه إلى الرسم الجميل وابتكار الصور البديعة. ذلك بأن ملكة الشعر موجودة فيه، تنظم اتجاهات نفسه، وتعمل على السمو بها حتى تتهيأ لرسالة الشعر. ومن عظمة الشعر أن يكون للشاعر المكفوف عيناً يغمر قلبه بالنور فيبدد غياهب الظلمة، وينثر الشعر أمامه نجوماً وشموساً تبهر عيون المبصرين. إلا أن الشعر وحي يرتفع بالشاعر إلى مرتبة الروحانية، ففي استطاعة الشاعر أن يعرض لك الصور الحسية الجافة الصامتة عرضاً كله حيوية ناطقة؛ يصور لك الشيء الذي لم تره، فتشعر كأنك رأيته ولمسته وخبرته. وما رأيته ولا لمسته، ولكنه سحر الشعر وفنه وأعجازه، يجعل من المعنويات محسات، ومن الأخيلة حقائق، فما أبدعه وما أروعه! انتهينا إذن إلى أن الشعر لغة روحية، هب نسيمها على النفوس عندما انتظمت المشاعر، وحينما

<<  <  ج:
ص:  >  >>