للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تهيأت لتلقي الرسالة الشعرية؛ وأنه أسلوب خلق نفسه في الإنسان خلقاً، عندما ضاقت النفس بمعان لا تصورها خطابة، ولا يعبر عنها حديث، وقد ارتاحت النفوس إلى الشعر لأن طبيعته الوزن والنغم والنظام والأناقة؛ وأحبته حين نظم مشاعرها، ونظم أحاسيسها فأراحها

وإن الشاعر المفطور يخلق وفي طبعه روح الشعر، أن روح الشعر لا تخمد بخمود روح الشاعر، بل أنها لتظهر في صور فنية أخرى. ولما كان الشعر وليد العاطفة المنظمة لابست أغراضه أغراض النفس أصدق ملابسه، وتساوقت معاني القلوب وأحاسيسها في معانيه وأحاسيسه، وصار أمرا طبيعيا أن يكون الشعر صورة لنفسية الشاعر، وعبيرا لأزاهير حبه، ولهيباً لما يشتغل بين جوانحه من عاطفة، وشعاعاً لما يتألق في وجدانه من آمال. وكان بكل هذا حقيقاً أن يكون مجتلى لسائر العواطف الإنسانية السامية

وإن الباحث البصير ليستطيع أن يحدد زمن الشعر الذي يقرؤه إذا أوتي حظاً من دراسة النفس في مختلف العصور، بل أنه ليستطيع أن يهتدي بالشعر إلى كثير من أخلاق الشعوب، فيعرف ما شاع في كل عصر من الأخلاق، وما اضطرب فيه من العادات والتقاليد، وما كان يعتبر فيه مناط الفخر والمفاضلة، وأنه في كل ذلك لسائر على هدى ما يتأرج به الشعر، وما تشبه أرواح الشعراء؛ هبك قرأت الأبيات آلاتية:

تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما

فلسنا على الأعقاب تدمى كومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدما

تفلق هاماً من رجال أعزةٍ ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما

ألا تشعر بعد طول التامل، بل بقليل منه أنها من إنتاج الأدب القديم، أدب التضحية والفداء، عصر الشهامة والإقدام؟ وهبك قرأت قول الشاعر:

إن العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله إنسانا

ألا تحكم لأول نظرة بأن هذا كلام متمعن في الحضارة، ممعن في الرفاهية، فياض بالرقة، تلوح على محياه نضرة النعيم، فلا يحلق بنفسك أقل عجب إذا علمت أنه من كلام (جرير). وهبك قرأت قول الشاعر:

<<  <  ج:
ص:  >  >>