أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... املك رأس البعير إن نفرا
والذئب أخشاه أن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا
ثم قرأت بعده قول الشاعر:
أصبحت لا أستطيع الثوب أحمله ... وقد أكون وضافي الدرع سربالى
ولا تكاد يدي تجري شبا قلمي ... وكان طوع بناني كل عسال!
ألا تشعر بأن الشاعر الأول بدوي النشأة، صحراوي البيئة، تتراءى في كلامه مظاهر العربي الصميم، الذي كل عتاده السلاح والبعير، ومن طبيعته جوب الفلاة والتعرض للذئاب والرياح والأمطار؟ أو لا تشعر أيضاً بأن روح الحضارة تهب من عبارة الشاعر الثاني؟ أفليس أدق فكرا نظاما من الشاعر البدوي؟ أو ليس له من مفاخر الحضري القلم يجريه كيف شاء؟ وإذا أمعنت في التأمل استطعت أن تدرك أن الشاعر الثاني فارس في حلبتي البيان والحرب. إلا تراه يقرن بين القلم والرمح؟ فهل تعجب بعد ذلك إذا علمت أنه رب السيف والقلم (محمود باشا سامي البارودي)؟!
وهكذا يستطيع الفنان البصير أن يلمح صور الزمان والحضارات في مرآة الشعر؛ ويستطيع أن ينتقل من عهد إلى عهد على هدى من الشعر ومن نور البصيرة.
وإنك لتستطيع أن تزن أخلاق الشاعر بشعره، وتدرك ما كان عليه من مختلف الصفات، وتعلم من خلال شعره أكان قوي الروح أم ضعيفة، جياش العاطفة أم فاترها، بعيد مدى الآمال أم رهن محابس القنوط، واسع الرغبة في الغلبة وذيوع الصيت أم قانعا بما فرضه عليه الزمان، وتقيده به المقادير
الشعر أصدق في الإفصاح عن نفسية الشاعر من المخالطة، لأن الشاعر قد يكون في وقت المخالطة متكلفاً مسوقاً إلى ملابسة الأحوال التي تضطرب حوله. أما إذا قرض الشعر، فإن عواطفه تتراءى بين سطوره، وإن حاول الاختفاء واجتهد في التنكر؛ ومن هنا كان الإنتاج الشعري صورة لمختلف الوجدانات؛ وطبيعي أننا نريد من كل ما تقدم شعر العاطفة، لا الشعر البالي المأجور، ولا عجب بعد ذلك أن توفر الناس على الشعر الحي النابض بالشعور الإنساني دراسة واستيعاباً وشرحاً ونقداً، أو معارضة واقتباساً، وكما دل الشعر على أن أبا نواس كان صاحب مجون، وإن البحتري كان صاحب موسيقى، كشف لنا عن