ولكن الليل يطردني عنه، وينفيني منه، ويريد أن يحول بيني وبينه. لقد وسع كل شئ؛ كل الخيرين والأبرار، والآثمين والأشرار، والغاصبين والأخيار؛ ولكنه ضاق عني، وقذف بي إلى مغارة هائلة لا أدري أين أستقر فيها. . .
رحمة بالضعفاء يا ليل! إن الذين تزدريهم أعينك الليلة، ويتجافى عنهم مداك الواسع، وسلطانك الممتد. . . ليس لهم ما يستريحون إليه إلا هذه الساعات يقتطعونها من عمر الزمن، ويختلسونها من حياة الدهر، ويسرقونها سرقة الجائع المتهالك للكسرة الجافة واللقمة الشاردة لينعموا بها ساعة في نوم عميق ينسون فيه أنفسهم، وهذه الآفاق التي تحيط بهم، وتلك الذكريات التي تنتاشهم، وحادثات الألم التي تصك مسامعهم فلا يملكون بعدها الحركة والشعور، فهلا رفقت بهم أيها الليل هلا ضممتهم في نعيمك الممتع، ولففتهم بسكونك المتراخي، وتركتهم إلى هذا الهدوء الذي ينشدونه، وهذا الصفاء الذي يرمقونه، وتلك الفترات التي يتطلعون إليها ليجددوا بعد القوة على احتمال الأسى، ولقاء الشرور
- ٤ -
إني لأخشى هذا الفضاء الهائل الذي أجدني فيه، ليس من حولي شئ، ولا إلى جانبي إنسان، لقد ذعرت حقا حين مددت يدي هنا وهنالك، وأجلت بصري أمام ووراء، فلم ألق هذه الإنسانية البرة الحنون التي رعت طفولتي بشقائها، وغذت يفاعتي بدموعها، ونشأت صباي من دم قلبها. . . لقد أدركت. . . إنها بعيدة عني، وأن بيني وبينها آماداً ومسافات يرعاها الله، ويكلؤها الرحمن، فمن لي باليد التي تطوق عنقي، من لي يفيض على الجرأة، ويبعث في القوة، ويطرد عني خوف الليل؟
إن فضاءً كبيراً حولي. . . وإن فضاء أكبر في نفسي. . . وليس في وسعي أن أملأه بما أرى في النهار، وأسمع في الطريق، وأحس في العمل، لأني لا أرى شيئاً، ولا أسمع صوتاً، ولا أحس حركة. لقد ابتلع الليل كل شئ، فطواه في ثناياه، وضمه إلى حشاه الواسع. . . إلا أنا. . . إلا أنا سهران لأنه يفيق عني، فأظل مشرداً في كهوف مرعبة من الشكوك والأحزان: شأن هؤلاء المشردين في أطراف الأحياء، وأرصفة الشوارع، وحافات المقاهي في النهار، ولكني أنا مشرد ليل، وليس لهذا الليل ندى آوى إليه، أو صديق أسلو معه، أو شارع أجوس خلاله. . .