ومضيت بي كما تمضي بكل هؤلاء الناس إلى أحبتهم يناشدونهم الوصل، ويعتبون عليهم القطيعة، ويلومون منهم هذا الإهمال، وإلى أهلهم البعيدين منهم المتغربين عنهم: يبثونهم الحنين، ويهدونهم التحيات، ويطبعون على جبينهم قبلة الحب الذي يملأ كل جارحة ويغطي على كل شئ، وإلى معاهد الصبا يطوفون فيها ويسمعون في جنباتها ويرددون في آفاقها نشيد المرح والسعادة، وإلى أرض الوطن يسألونها ماذا حل بها وأي شيء أصابها، وماذا فيها من مكر الدهاة ومكارة الدنيا وعبث الزمان؟؟ وهل من بلاء - لا كان - يلقاه أبناؤها الغر: الذين يحملون فوق كل ما يحمل أبناء العالم من واجبات المدرسة والبيت، وحقوق المدن والريف، وأهداف الوطن والمستقبل، وغايات العرب والإسلام؟؟
- ٧ -
لم يعد في وسعي شيء - أيها الليل - لقد سددت النافذة وأقفلت الباب ودفنت وجهي في الوسادة، ودسست كل أطرافي في أعماق السرير كمن يتحصن. . . ولكنك لم تشأ أن ترفق بي: إن الباب ليطرق طرقاً عنيفاً، وإن النافذة لتهتز هزة شديدة، وإن كل ما حولي ليتحرك. . . ولكني سأجمع كل قوتي، وستتركني أنت هنا في هذا الأسر الموحش. . . غير أن النهار سيضيء وسيحسن إلي مرة، لأنه يعرف أنه أساء إلى مرات، وسأنهض على قدمي وأفتح ناظري وأرى النور. . .
- ٨ -
إنّ غبش الفجر ليلمع في جبين الليل، وإن همسات خافتة من أضوائه لتتراءى لي. . . هذا السواد يهزل ويهزل، إنه ليمضي في طرف الأفق مطرقاً مستحيياً، ولكني سأغفر له هذه الإساءة لأني أحب هدؤه وأعشق صفاءه وأعيش في أحلامه. . .