والنيابة خالية منهم، وبيئات العلم والأدب جاهلة بهم معرضة عنهم، والأمة لا تراهم إلا حيث يكون الاحتفال بالمحمل، أو الاجتماع للموالد مع أرباب الطرق، أو الحشد للمواسم والأعياد!
وهكذا قضي عليهم بالموت البطيء ينساب إليهم في مثابرة واتصال كما ينساب إلى المصدور أو العليل!
في مثل هؤلاء يقول (ابن القيم) منذ ستة قرون:
(لقد جعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، محتاجة إلى غيرها، وسدوا على أنفسهم طرقاً صحيحة من معرفة الحق والتنفيذ له، ظناً منهم أنها منافية لقواعد الشرع، ولعمري إنها لم تناف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن نافت ما فهموه من شريعته. . . والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة، وتقصير في معرفة الواقع، وتنزيل أحدهما على الآخر، فلما رأى ولاة الأمور ذلك وأن الناس لا يستقيم لهم أمرهم إلا بأمر وراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة أحدثوا من أوضاع سياستهم شراً طويلاً، وفساداً عريضاً، فتفاقم الأمر، وتعذر استدراكه. . .)(الطرق الحكمية ص١٣)
وفيهم يقول الأستاذ الأكبر الإمام المراغي في مذكراته الإصلاحية التي كتبها في سنة ١٩٢٨ وجعلها برنامجه في إصلاح الأزهر:
(ولكن العلماء في القرون الأخيرة استكانوا إلى الراحة، وظنوا أنه لا مطمع لهم في الاجتهاد، فأقفلوا أبوابه، ورضوا بالتقليد، وعكفوا على كتب لا يوجد فيها روح العلم، وابتعدوا عن الناس، فجهلوا الحياة وجهلهم الناس، وجهلوا طرق التفكير الحديثة وطرق البحث الحديثة، وجهلوا ما جد في الحياة من علم وما جد فيها من مذاهب وآراء، فأعرض الناس عنها، ونقموا هم على الناس، فلم يؤدوا الواجب الديني الذي خصصوا أنفسهم له، وأصبح الإسلام بلا حملة وبلا دعاة بالمعنى الذي يتطلبه الدين)
هذا، ولعل الرسالة توفق إلى نشر مذكرة الأستاذ الأكبر الإمام المراغي بعد أن مضى عليها أكثر من اثني عشر عاماً، فأني أخشى أن يكون طول الزمان قد خلع عليها ثوب النسيان، ولستُ أعلم مذكرة عالجت شئون الأزهر والفقه والدين بمثل ما عالجتها به هذه المذكرة في العصر الحديث.