قلت: أين هي السلطة الكائنة على وجه هذه الأرض التي تستطيع أن تصنع من الخير ما تصنعه هذه الحان؟ بل أين هي النبوة التي تستطيع أن ترتفع بالفطرة إلى أعلى من هذا المكان! ثم أية (منفعة) في هذه الدنيا الفانية أنفس من هذه السعادة التي تقرب وتقرب، حتى لها نغمة في الآذان وحركة في الأبدان
لن يستطيع ذو سلطان يعتمد على السلطان، مهما سما فكره، وطابت نفسه، أن يصنع مثل هذا الخير، وأن يطلق النفوس من غرائزها وقيودها، فرحة سعيدة راضية، لا تخطر الخطيئة لها ببال، ولا يهجس الشر لها في الضمير؛ وهي محلقة في هذا الأوج، مرفرفة في هذه الآفاق، خالصة من وحي الفناء ولذع الشقاء.
ولن يستطيع أكبر المخترعين والمهندسين والعالمين أن يزجي إلى الإنسانية باختراعاته وآلاته ونظرياته هذه السعادة التي تحسها وهي تستمع لمثل هذه الأنغام. وإذا لم تكن غاية الجهاد في الحياة هذه السعادة العالية وتلك الغبطة الراضية، فما عساها تكون؟
جالت في نفسي هذه الخواطر ثم استعرضت لخيالي صورة المجزرة البشرية في هذه الأيام، وصورة الحقد الوخيم، والضغن الذميم الذي يؤرثها، وصورة الغرائز المتسفلة التي تهيجها الدكتاتورية وتملقها في طبائع الأفراد والشعب، وصورة الذلة المشتعلة التي تثير الإعجاب في بعض النفوس ببطش الباطشين وغدر الغادرين. . .
فقلت: كيف اضطغنت البشرية هذا الحقد الحيواني كله، ووسعت معه ذلك الفرح الإنساني كله؟ ثم ذكرت قول العقاد: ثقلة في الحياة لم ينج طبع من عراقيلها ولم يخل عرف
وذكرت أن الإنسانية - كما يقول تاريخ الحياة - لا تزال طفلة تحبو في مدارج الزمن والارتقاء، وأن الحياة كلها لم تتجاوز الفجر الأول؛ فهي ما تزال تعيش حتى اليوم على نبات الأرض وحيواته، كما يعيش الطفل الرضيع على لبن أمه؛ ولن تبلغ هذه الحياة طور الصبا حتى تتطلع إلى غذاء تصنعه وتخلقه غير الغذاء الذي تجمعه وتؤلفه، كما يصنع الطفل بعد الفطام سواء
فينبغي ألا نستعجل الزمن، وألا نخدع بأبناء الحياة السابقين أولئك الفنانين الذين نضجوا قبل الأوان، وسبقوا خطوات الإنسانية بمراحل وأزمان، فتلك بواكير الروض، وطلائع