للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

شهرزد في كل مساء في ألف ليلة وليلة.

هذه الرحلة المعهودة للملك شهريار، لم يعرض لها مؤلفنا العصري. وإنما خلص منها رحلة باطنة للرجل شهريار، هي رحلة النفس تحركت فجازت أطوارا بعد أطوار.

فلقد كان شهريار عبد الجسد يبني كل ليلة بعذراء يستمتع بها وفي الصباح يقتلها، وكذلك كان ليلة استقبل شهرزاد يشتهي منها المتعة بالجسد الغض. حتى إذا سمعها تحدثه حديثها الساحر الممتع وتفتح له خزائن القصص والخيال والشعر، تفتحت مغاليق قلبه الموصد وتحرك جامده وارتجفت نياطه، فإذا هو يحبها وإذا بهذا الجسد الشهواني يحبها حب القلب والوجدان. غير أن نار العاطفة بدورها لم تلبث مشبوبة طويلا حتى تصفت إلى نور هادئ شاحب، فإذا هو لا يأمن للشعور بل ينشد المعرفة، وإذا به لا يريد لوقفة عند الظواهر والاعراض، بل الغوص إلى الجوهر ولب اللباب، ولا يريد الاحتباس في الحدود الضيقة بل الانطلاق، إلى حيث لا حدود، فهو فكر محض يجوله التأمل النظري والتجريد الفلسفي.

وهذه الأطوار النفسية الثلاثة التي اتفقت لشهريار على إناء متفرقة، يجلوها أيضاً المؤلف على مسرح قصته في آن واحد موزعة على شخوص ثلاثة: فهذا العبد اسود اللون وضيع الأصل قبيح الصورة رمز للشهوة الحيوانية، تلقاه شهرزاد في حلك الظلام، وتلزمه ألا يطرقها إلا خفية مع الليل، وتستكره معه العلن وتحذوه من أن يدركه الصباح فيقتل. وهذا الوزير الفتي، مثال الجمال في الخلقة والخلق، يحب شهرزاد كما يحب رجل جميل امرأة جميلة، فهي معبودته لا عشيقته، وقد بلغ التسامي بعواطفه منتهاه، فلم يعد غير قلب شاعر. وهذا الملك قد أفادته حكايات شهرزاد حبرة، وكشفت لبصيرته عن أفق للتأمل بلا حد، ونقلته كالطفل من طور اللعب بالأشياء أو التعبد لها إلى طور التفكير فيها، فهو اليوم فكر شارد أبداًينقب عن الكنه ويطلب المجهول:

أما شهرزاد فهي كالطبيعة لا رفيع عندها ولا وضيع، وهي كالطبيعة تتراءى لهؤلاء الثلاثة فيرى كل فيها مرآة نفسه. فهي عند العبد حس مادي ولذة مشبعة، وهي عند الوزير مثال أعلى للجمال قلبا وقالبا، وهي عند الملك سر عميق ينطوي على نواميس خالدة تجري على مقتضاها حركات الحياة وسكناتها ويتحدى لغزها المعرفة.

ومن عجائب الاتفاق إن هذه المعاني التي اقتضت القصة الرمزية اجتماعها في شهرزاد،

<<  <  ج:
ص:  >  >>