أخرى شيقة ما ألفناها، تبدل وتغير من ربيع زاهر ضاحك إلى خريف مجدب ماحل، ثارت النفس لهذا الاختلاف، ثم جاء وقت الحساب، فما أجدي تفاهم ولا عتاب. افترقنا، هو سادر في غلوائه، وأنا قلبي تائه في بيدائه، وحملت نفسي أشلاء ممزقة وهي حائرة مبعثرة، وصرخت في وجه القدر: أنا صابرة صابرة، وعلى تحدي غدره قادرة! أشحت بوجهي حين تقدم إلى بالمساعدة، حتى حقوق رفضتها معاندة، وخرجت من بيته مرفوعة الرأس. وهناك في غرفة حقيرة الأثاث انطويت على نفسي بعيدة عن الناس، أبيع الحلية أسد بها الرمق، أغالب حالات الضيق والقلق، وأطارد شبح الذكرى حتى حقرت في نظري الحياة. وما هي ذي نفسي تستمرئ هذا العيش الجديد، بالرغم من بعده عن كل تغيير وتجديد. بقى فضول الناس، فهم بمعرفة حقيقتي مولعون؛ يعجبون لوحدتي وانفرادي، ويتساءلون عمن أحب وعمن أعادي. لم يبق غير الجبل أسارع إليه لأدفع عني شر الإنسان، ولا بد انه ملاحقي في كل زمان ومكان. إني أحسن جوارهم، ولكن لا أحب حوارهم. آنس بالوحدة وأرى فيها عالم من نور، وأوقن أن ما يصيبنا في كتاب مسطور. درأت عن نفسي فتنة الدنيا بهذا الاحتجاب، وكأني سائحة طال عليها الاغتراب. رأيت السلوان في مصحفي وكتابي، وناشدت الله أن يجزل ثوابي؛ حتى إذا اجتزت المحنة في ثبات. أخذت أفيق من غمرة ذهولي وأقول: حياة كالعدم، شئ غير معقول. . . لم لا آخذ من دهري بنصيب، وأستبدل حبيباً بحبيب؟
صحت وقد نفضت عني حياة العدم، فليس في صفحتي ما يوجب اليأس والندم: أشرقي يا نفسي في جوانب صدري. هأنذى لا زلت شابة فتية. . . لم تكونين يا نفس ضحية الأحزان ونعيم الوجود يبدو أمامك؟ انشطي وأفسحي المجال لروحك، وضمدي بالسرور شتى جروحك. . . ما ضرك لو تعرفت بهذا وذاك. . .؟ أليس لأسير الأسى من فكاك؟ أيقضي علي بالقسوة والحرمان، وسواي يلهو مع الصحب والخلان. . . إن ظهري لا يحتمل وقر السنين، ولا يرضى بشقاء العيش غير المجانين! لقد لقيت جزاء الإخلاص، وأفلست من حبه أيما إفلاس، ولكني سأتناول بيدي كؤوس النعيم، وأطرح همي الدائم المقيم. نحن بني آدم كالأعاصير نثور ونهدأ، وما نحن ألا قصة أو حديث في أساطير، ومهما طال بنا الأمد فسيجرفنا الفناء. وسنجد أن الحياة لم تكن تستحق العناء، فلنشرب من