عُقام برى عظام ساقي وفخذي فلم أستطيع المشي ولا النهوض. واستولى ولدي البكر على مفاتيح الكنوز وأضفى على نفسه وزوجه وأمه وأخواته الذهب والحرير والنعيم والأبهة، وتركوني سطيحة في حجرة منعزلة لا يدخلها علي إلا الخادم بالماء والثريد والقهوة. ولا أدري لماذا استعرت في نفسي اليوم شهوة الأكل ورغبة المتاع، فأنا أشتهي كل شئ، وأبتغي كل شئ، ثم أنظر في يدي الجمَّاعة الكسوب فإذا هي معروقة كيد المسلول، فارغة كراحة السائل؛ وأدور بعيني في الحجرة الموحشة فأرى أطياف اللذين فجعتهم في أموالهم وآمالهم تخفق على الجدران ساهمة حزينة، فأتذكر كم مدين أغرقت، وكم بيت أغلقت، وكم قلب سحقت، فتنهلَّ مدامعي انهلال القَطر على خدي الغائر الشاحب، وأتمنى لو تعود قدرتي على ثروتي فأمحص خطاياي بإنفاقها كلها في سبيل الله؛ ولكن هيهات هيهات لما أرجو! لم يبق لي منها إلا حريق القلب في الدنيا، وحريق الجسم في الآخرة. حتى الدواء لا أناله، وحتى الكفن لا أرجوه! وكأنما أمات الله نصفي الساعي، وأبقى على نصفي الشاعر، لأدرك بعيني وفكري وخيالي مض الألم الذي يحسه المظلوم يُغتصَب ولا يستطيع أن يدفع، والمحروم يتشهى ولا يستطيع أن يجد، والمهموم يتلظى ولا يملك أن يموت.
ذلك مثل، والمثل الآخر رجل يسرني أن أكشف قليلاً عن اسمه: هو الأستاذ (م. محمود جلال). عرفني هذا الرجل قبل أن أعرفه، وسعى إليَّ دون أن أسعى إليه؛ وتلك مخالفة لرسوم الكبرياء لم تقع من غيره. ثم حدثني وكتب إليَّ، وزرته ثم كشفت عنه، فعلمت أنه رَجلُ وحدِه في هذه الطبقة. لا يعتبر الغني غاية كما يعتبره الاشحة، وإنما يعتقده سبيلاً غايته السعادة. والسعادة في رأيه معنى منتشر لا يجتمع لنفسه إلا بسعادة أسرته وأمته وملته. فهو لا يحتكر ولا يدخر ولا يطمع. إنما ينفق غلة أرضيه الواسعة على عامه الحاضر فلا يبقى شيئاً منها إلى قابل. وعلى هذا المبدأ يتسنى لإيمانه الكامل أن يعمر نواحي المعروف بفعله. والإيمان الكامل هو الإيمان بالله؛ لأن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بكل ما يدخل في مفهوم الحق والخير والجمال. يتجلى ذلك الإيمان في تدبيره لبيته، وتربيته لِبنيه، ومعاملته لفلاحيه، وإدارته لثروته، ونيابته عن أمته. فبيته المؤسس على الرضوان والتقوى متحف فن ومكان عبادة ودار ضيافة. وأولاده البنون والبنات قد أخذهم بأدب الإسلام، فهم يؤدون الصلوات، ويتنافسون في الخيرات، ويحفون من حول أبيهم