ستخلق فيهم ضروباً من الطمأنينة تصرفهم عن الكفاح في التسبب والارتزاق.
ثم مضى ذلك الكاتب البليغ فسرد من غرائب الحظوظ أشياء وأشياء.
وأقول بصراحة إني لن ألتفت إلى تلك الغرائب، لأنها فوق الطب والعلاج، فستمضي أجيال وأجيال قبل أن يصح ذوق المجتمع فلا يستوي عنده الطيب والخبيث، ولا يصبح المخلوق التافه وهو آثر عنده من الرجل الحصيف.
وما الموجب لانتظار تلك العافية الاجتماعية، وهي العدل المطلَق، والعقاد نفسه يرى أن ذلك العدل قد يقضي على الدوافع الحيوية فينعدم الاندفاع الصالح والاندفاع الذميم على السواء؟
لن ألتفت إلى ما يقع في المجتمع من غرائب الحظوظ، ولن أجيب من يسألني عن أقوام تلطف معهم الدهر المخبول، ولن أقول كلمة في الوارثين، بحجة أنهم يرزقون بلا كد ولا اجتهاد، فلو عطل نظام الميراث لانعدم النشاط الإنساني بعض الانعدام، ولآثر الناس جميعاً أن تكون جهودهم مقصورة على كسب القوت من يوم إلى يوم. ولو قلنا الحق كل الحق لصرحنا بأن الميراث هو أجمل نظام عرفته الإنسانية، فهو الشاهد على أن الجهاد في طلب الرزق لا يضيع، وأنه قد يصل إلى الأعقاب وأعقاب الأعقاب، وذلك أقوى حافز لتأريث عزائم الرجال.
لن ألتفت إلا إلى ظاهرة واحدة: هي شيوع الفقر في البيئة المصرية، مع كثرة وجوه الارتزاق.
الفقر في مصر كثير وفظيع، ودميم وشنيع، وملعون وقبيح، إلى آخر ما في اللغة من ذميم الأوصاف والنعوت. ومصر مع ذلك أخصب بقاع الأرض، وهي جديرة بأن تضفي على جميع أبنائها أثواب النعيم، لو عرفوا كيف يجاهدون الفقر جهاد الرجال.
قلت: إن أسباب الفقر كثيرة، ولكنها ترجع إلى ثلاثة أسباب أساسية، هي الكسل، وقلة الأمانة، والرضا بالدون من مطالب الوجود.
وهنا صرخ المتحذلقون فقالوا: إنك تجعل الفقر علة فردية مع أنه علة اجتماعية.
وقد أجبت بأن الفرد هو الحجر الأول في بناء المجتمع، فالمجتمع أفراد أضيف بعضهم إلى بعض، وبذلك يشهد من زوده الله بزاد العقل.