ثم صرخ جماعة آخرون فقالوا: أنت أديب، فما شأنك بالمعضلات الاجتماعية؟!
فمتى يفهم الغافلون أن الأدب صورة الحياة، وأن الأديب رجلٌ يعيش كما يعيش كما يعيش سائر الرجال، وأنه قد يحس بلايا الحياة بأقوى مما يحسها زعماء الاقتصاد؟
ألأني أديب يُحرَّم عليَّ أن أتعرض للمكاره التي يعانيها وطني في الميادين الاجتماعية والمعاشية؟
يقول فلان إنه قرأ ما لم أقرأ من الكتب التي تبحث في أسباب الفقر والغنى.
وأقول إني رأيت ما لم ير فلان من أخلاق الناس في ميدان المعاش، لأني رجل ممتحَن بطلب الرزق، وطلاب الرزق (يرون) أكثر مما (يقرأ) فلان وفلان.
أليس من العجب أن يتحدث جماعةٌ عن العمال والصناع والفلاحين في مصر بعد قراءة كتاب عن العمال والصناع والفلاحين في بلاد الإنجليز أو بلاد الألمان؟
أكثر هؤلاء المتحذلقين لا يعرفون شيئاً عن بلادهم، وأكثر المتوجعين لشقاء الفلاح المصري لا يرونه إلا بعيون من قرءوا لهم من الكتاب الأجانب.
ولست بحمد الله من أولئك ولا هؤلاء، فأنا لا أستوحي كتاباً قرأته، وإن كنت أحرص الناس على القراءة والاطلاع، وإنما أستوحي ما تراه عيناي، ولي مصالح معاشية تسوقني سوقاً إلى درس أحوال العمال والصناع والفلاحين: فلي معهم في كل يوم شأن وشؤون، وبفضل ما ساقتني إليه المقادير من الاهتمام بالحياة المعاشية، سأصل إلى قرارة الضمير المصري، وسأعرف ما هو عليه من تحليق وإسفاف.
كنت دعوت الأستاذين الكبيرين الزيات والعقاد إلى إبداء رأيهما فيما قلت به من أن الفرد هو الحجر الأول في بناء المجتمع.
وقد أجاب الأستاذ العقاد بما رأى القراء، فما هو رأي الأستاذ الزيات؟
كتب هامشاً قال فيه: (إن رأي (الرسالة) في الفقر ولفقراء معروف).
وهو كذلك، ولكن ما رأيكم إذا سجلت على الأستاذ الزيات أنه صرح في إحدى افتتاحياته بأن (الرسالة) قضت عاماً كاملاً في استنهاض الأغنياء إلى البر بالفقراء، فلم يسمع سامع ولم يستجب مجيب؟
ألم أقل لكم: إن الاعتماد على الأغنياء يضر أكثر مما ينفع؟