للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الألمانية.

(العصبة)

ازدهار الفكر وبطش المسيطر

ربما كان من الأسباب التي جعلت بعض الأساتذة ينكرون ازدهار الفكر في عهد الأمان والاستقرار - أي عهد انتظام أمور الدولة وقوة حكومتها واتساع نطاق تجارتها - أن الحكومات القوية في تلك العهود كان يخشى بطشها بالفكر، لكنا إذا رجعنا إلى التاريخ، وجدنا أن الفكر في تلك العهود كان يستفحل ويستفرخ وينمو نمو النبات في المنطقة الخصبة الحارة، فلم يؤثر فيه ذلك البطش مهما اشتد بأس الحكومات، فكان نموه أشبه بنمو نبات البردي في مناقع النيل قرب منبعه، فإذا قطع بعضه، عوضت سرعة النمو وغزارته أكثر مما قطع. على أن تلك الحكومات القوية، كثيراً ما كانت ترعى المفكرين برعايتها، فإذا عادت مفكراً كانت المعاداة بسبت وشاية شخصية أو عداوة سياسية، أو تظاهر بإبراء الذمة أمام الجمهور المعادي له.

وهذه كانت حالات مفردة يعوض نمو الفكر الغزير في تلك العهود عما يكون فيها من فقد. على أن كثيراً من الحكام ذوي البأس والشدة كانوا يفاخر بعضهم بعضاً برعاية العلماء والمفكرين والفلاسفة، حتى صارت تلك الرعاية عدوى أشبه بعدوى أزياء الثياب، وقلما يستطيع أحد أن يتخلف عن الزي الشائع في الثياب إذا كان يريد الظهور، فكانت رعاية صاحب البطش وعنايته بالمفكرين إما لأنه كان حاكماً مثقفاً، وبعض هؤلاء الحكام كانوا على شيء كثير من الثقافة، وإما لأنه رأى الثقافة زياً يتباهى به فكان صنيع هذا كصنيع الأثرياء الجهال الذين أغنتهم الحرب الكبرى الماضية في أوربا، فقد كانوا يجمعون الكتب والصور والآثار العلمية والفنية، فينتفع بها غيرهم وإن لم ينتفعوا بها. وكل هذه الأسباب المختلفة توضح أسباب نمو الفكر في عهود الأمان والاستقرار والحكومات القوية الباطشة. وإذا تدبرنا حقائق التاريخ، وجدنا أن بطش الحكام بالفكر قلما كان ينجح إلا إذا كان هذا البطش بالفكر مبدأ وطنياً شعبياً، كما حدث في أسبانيا بعد سقوط دولة العرب فيها وقيام دولة الأسبان المسيحية، فلم يكن البطش بالفكر في عهد شارل الخامس وفيليب الثاني خطة

<<  <  ج:
ص:  >  >>