للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فيخشى نفاد ماله الكثير، ومنهم من لو بسط يده بالإنفاق عشرات السنين لما خشي على ماله النفاد

أعرف رجلاً له نظراء كثيرون كان يملك القصور ويدخر الأموال في المصارف، وله معاش لا ينقطع من خزانة الحكومة، وهو مع هذا يبخل على نفسه بالقليل ويعيش معيشة الفقراء، ويراه الحوذية في الطريق فيهربون منه لأنه يأبى أن ينقدهم الأجر إلا على حساب ما تعود قبل أربعين أو خمسين سنة يوم كان للمليم سعر القرش في هذه الأيام. وأعجب العجب أن هذا الرجل الشحيح كان مجدوداً في أوراق المصارف التي يناط بها النصيب فكان يربح جوائزها الأولى من حين إلى حين. وحدث مرة أن وكيله تسلم جائزة من هذه الجوائز وأخر إيداعها المصرف الذي يعاملونه بضعة أيام، فلما راجع الغني الشحيح حسابه قطع أرباح الجائزة في هذه الأيام القليلة من مرتب الوكيل المسكين، وهو شيء يبذله من يربح مثل هذه الجائزة هبة لمن يحمل إليه بشارتها ولا يندم عليه

ولم يكن لهذا الرجل عقب ولا كان له مطمع في العيش الطويل بعد السن التي ارتفع اليها، ولكنه يطلب المال لأن طلب المال شهوة لا يشترط أن تتعلق بالإنفاق والتوريث

ولو نظر الناس إلى الواقع في أمر الورثة لما حرصوا على ترك المال بعدهم للأبناء والأحفاد؛ فإن أبناء الفقراء الذين عاشوا في الدنيا عيشة راضية بغير ميراث يبلغون أضعاف الوارثين عدة سواء ورثوا الكثير أو القليل، وأن الذين أشقاهم الميراث لا يقلون عن الذين سعدوا به وحفظوه أو زادوا عليه، وأن الذين يموتون وهم خائفون من تبديد أبنائهم لثروتهم أكثر جداً من الذين يموتون وهم مطمئنون إلى حسن التصرف ودوام الحال

كان العلامة يعقوب صروف طيب الله ثراه يوصيني كلما لقيته أن أدخر وأن أحسب حساب المال والثراء، وكأنه أنس مني التواني في الإصغاء إلى هذه النصيحة فروي لي حديثاً جرى بينه وبين تاجر من كبار التجار السوريين العصاميين رآه مشغول البال معنى بما يخشاه على ثروته وأبنائه بعد موته من تقسيم وبوار. قال: وهكذا الدنيا دواليك بين جيل عصامي يجمع، وجيل عظامي يضيع ما جمعه الآباء، ويأتي بالمعذرة لمن يتركون الأبناء فقراء ناشطين في طلب الجاه والثراء

قال العلامة صروف: ومنذ أيام طرق علينا الباب أبناء صاحب من أصحابنا مات فجأة

<<  <  ج:
ص:  >  >>