أحدهما دليل لغوي يتعلق بالموضوع الذي نحن بصدد دراسته، وهو أن جميع اللهجات العامية المتشعبة عن العربية والتي تستخدم الآن في الحجاز ومصر والعراق والشام وبلاد المغرب مجردة من الإعراب كما ذكرنا ذلك في المقال الأخير. فلو كانت لهجات المحادثة العربية القديمة معربة لا تنقل شيء من نظامها هذا إلى جميع اللهجات أو إلى بعضها.
وثانيهما دليل منطقي عقلي وهو أن قواعد هذا شأنها في التشعب والدقة وصعوبة التطبيق وما تتطلبه من الانتباه وملاحظة عناصر الجملة وعلاقتها بعضها ببعض، لا يعقل أنها كانت مراعاة في لهجات الحديث؛ لأن لهجات الحديث تتوخى في العادة السهولة واليسر وتلجأ إلى أقرب الطرق للتعبير.
بل ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك فزعم أن هذه القواعد لم تكن مراعاة في لهجات الحديث ولا في لغة الكتابة، وإنما خلقها النحاة خلقاً قاصدين بذلك تزويد اللغة العربية بنظم شبيه بنظم اللغة الإغريقية حتى يكمل نقصها في نظرهم وتسمو إلى مصاف اللغات الراقية، ويعتمد هؤلاء في تأييد هذا المذهب على نفس الدليلين اللذين اعتمد عليهما الفريق الأول مع توجيههما وجهة تتفق مع ما يذهبون إليه. وعلى دليل ثالث خلاصته أن قواعد هذا شأنها تشعباً ودقة لا يعقل أن تكون قد نشأت من تلقاء نفسها؛ ولا يمكن لعقليات ساذجة كعقليات العرب في عصورهم الأولى أن تقوى على خلقها. فهي تحمل آثار الصنعة الدقيقة المحكمة، ويبدو عليها طابع من عقلية المدارس النحوية التي ظهرت في العهود الإسلامية بالبصرة والكوفة وما إليهما.
وقد تبين فساد هذين المذهبين لجميع المحققين من الباحثين؛ حتى لأكثرهم تحاملاً على الساميين، وأشدهم ولوعاً بالانتقاص من حضارتهم ولغاتهم كالأستاذ رينان الفرنسي. واليك طرفاً من الأدلة التي لا تدع مجالاً للشك في فسادهما:
١ - إن عدم وجود هذه القواعد في اللهجات العامية الحاضرة، لا ينهض دليلاً على أنها لم تكن موجودة في العربية الأولى، فقد انتاب أصوات اللغة العربية وقواعدها في هذه اللهجات كثير من صنوف التغيير والانحراف، وخضعت لقوانين التطور في مفرداتها وأوزانها ودلالاتها، فبعدت بعداً كبيراً عن أصلها، كما تقدم بيان ذلك بتفصيل في المقالين السابقين.