٢ - وليس بغريب أن تتفق اللهجات العامية جميعاً في التجرد من علامات الإعراب، فقد خضعت لقانون من قوانين التطور الصوتي، وهو (ضعف الأصوات الأخيرة في الكلمة وانقراضها)، وهو قانون عام قد خضعت له جميع اللغات الإنسانية في تطورها؛ فما كان يمكن أن تفلت منه لهجة من اللهجات العامية المتشعبة عن العربية، كما تقدم الكلام عن ذلك في المقالين السابقين.
٣ - على أنه قد بقي في اللهجات العامية الحاضرة كثير من آثار الإعراب وخاصة الإعراب بالحروف، فيقال مثلاً في عامية المصريين وغيرهم (أبوك وَّأخوك)، لا (أبك) و (أخك)؛ وينطق بجمع المذكر السالم مع الياء والنون (الطيبين، المؤمنين الخ. . .)؛ وفي معظم لهجات العراق في العصر الحاضر ينطق بالأفعال الخمسة مثبتة فيها نون الإعراب:(يمشون، تمشين، تمشون. . .)؛ وروى كثير من الباحثين أن آثار الإعراب بالحركات لا تزال باقية في لهجات بعض القبائل الحجازية في العصر الحاضر.
٤ - يستفاد من كثير من كتب التاريخ، وخاصة كتب أبي الفداء أن بعض علامات الإعراب ظلت باقية في بعض لهجات المحادثة المتشعبة عن العربية حتى أواخر العصور الوسطى.
٥ - إن دقة القواعد وتشعبها لا يدل مطلقاً على أنها مخترعة اختراعاً. فاليونانية واللاتينية مثلاً في العصور القديمة والألمانية في العصر الحاضر، يشتمل كل منها على قواعد لا تقل في دقتها وتشعبها عن قواعد اللغة العربية، ولم يؤثر هذا في انتقالها من جيل إلى جيل عن طريق التقليد، ولا في مراعاتها في الحديث، ولم يقل أحد أنها من خلق علماء القواعد.
٦ - أن خلق القواعد خلقاً محاولة لا يتصورها العقل، ولم يحدث لها نظير في التاريخ، ولا يمكن أن يفكر فيها عاقل أو يتصور نجاحها؛ فمن الواضح أن قواعد اللغة ليست من الأمور التي تخترع أو تفرض على الناس، بل تنشأ من تلقاء نفسها وتتكون بالتدريج.
٧ - إن علماء القواعد العربية لم يكونوا على علم باللغة اليونانية وقواعدها، ولم تكن لهم صلة ما بعلماء القواعد من الإغريق. هذا إلى أن قواعد اللغة العربية تختلف في طبيعتها ومناهجها اختلافاً جوهرياً عن قواعد اللغة اليونانية. فلو كانت قواعد العربية قد اخترعت على غرار القواعد اليونانية كما يزعمون لجاءت متفقة معها، أو على الأقل مشبهة لها في