٨ - يدلنا التاريخ أن علماء البصرة والكوفة كانوا يلاحظون المحادثة العربية في أصح مظاهرها ويستنبطون قواعدهم من هذه الملاحظة؛ وأنهم كانوا لا يدخرون وسعاً في دقة الملاحظة واتخاذ وسائل الحيطة؛ حتى أنهم ما كانوا يثقون بأهل الحضر لفساد لغتهم، ولا بالقبائل التي احتكت ألسنتها بلغات أجنبية كلخم وجذام وقضاعة وغسان وأياد وبكر وأزدعمان وأهل اليمن؛ وأنهم كانوا يبذلون في سبيل ذلك من وقتهم وجهودهم شيئاً كثيراً، فكانوا يرحلون إلى الأعراب في باديتهم ويقضون عندهم الشهور بل السنين؛ وعلماء هذا شأنهم دقة واحتياطاً وإخلاصاً للعلم لا يعقل أن يتواطئوا جميعاً على مثل هذا الإفك المبين.
٩ - وإذا أمكن أن نتصور أن علماء القواعد تواطئوا جميعاً على ذلك، فإنه لا يمكن أن نتصور أنه تواطأ معهم عليه جميع العلماء من معاصريهم، فأجمعوا كلمتهم ألا يذكر أحد منهم شيئاً ما عن هذا الاختراع الغريب. ولا يعقل أن يقبل معاصروهم هذه القواعد على أنها ممثلة لقواعد اللغة ويحتذونها في كتاباتهم؛ اللهم إلا إذا كان علماء البصرة والكوفة قد سحروا عقول الناس واسترهبوهم وأنسوهم معارفهم عن لغتهم وتاريخها، فجعلوهم يعتقدون أن ما جاءوا به من الإفك ممثل لفصيح هذه اللغة.
١٠ - إن النقوش التي كشفت حديثاً في شمال الحجاز بمنطقة تيماء والحجر والعلا لتدلنا أقطع دلالة على أن الإعراب كان مستخدماً في (العربية البائدة) نفسها، فبعض العلامات الإعرابية قد رمز إليه في هذه النقوش بحروف ملحقة في آخر الكلمة ((صنعه كعبو)(وهرب مزحجو). . . الخ)
١١ - لم تنفرد اللغة العربية من بين أخواتها السامية انفراداً كاملاً بنظام الإعراب، فلهذا النظام آثار في اللغات الحبشية السامية، وخاصة في الجفرية والأمهرية. صحيح أن هذه الآثار محدودة ضئيلة، وأنها تختلف اختلافاً غير يسير عن نظام الإعراب في اللغة العربية؛ ولكن وجود أثر لهذا النظام في لغة سامية لا تزال لغة حديث إلى الوقت الحاضر، كاللغة الأمهرية مهما كان هذا الأثر ضئيلاً - وعلى أي صورة كانت أوضاعه - لدليل قاطع على أنه منحدر من الأصل السامي الأول وليس من خلق النحاة
١٢ - تقوم أوزان الشعر العربي وقواعده الموسيقية على ملاحظة نظام الإعراب في