للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تبارك من صنع هذا الإنسان مدفع لحم لإطلاق الكلام الفارغ.

(أنا من اجل ذلك لا أزال إلى الآن مع الأدب العربي في فنه وبيانه اكثر مما أنا مع الحكاية ولغتها وعواطفها، فأكبر عملي إضافة إلى الصور الفكرية الجميلة إلى أدبنا وبياننا متحاشيا جهد الطاقة أن أنقل إلى كتابي دواب الأرض أو دواب الناس أو دواب الحوادث، فان الكتب ليست شيئا غير طبائع كتابها تعمل فيمن يقرؤها عمل الطباع الحية فيمن يخالطها. والرواية إذا وضعها كاتب فاجر، فهي عندي ليست رواية بل هي عمل يجب أن يسمى في قانون العقوبات (فجورا بالكتابة).

(أن اكثر ما تراه من القصص، وبخاصة هذه التي غمرت الكتابة عندنا - إنما هي صناعة لهو، ومسلاة فراغ، وهذا قد يكون له وجه في علاج الحياة العملية، وفي تخفيف حطمة الاجتماع في أوربا وأمريكا، ولكن ما موضعه عندنا في الشرق، والشرق إنما تعمل في نهضته لمعالجة اللهو الذي جعل نصف وجوده السياسي عدما، ولملء الفراغ الذي جعل نصف الحياة الإنسانية موتا؟ هذا الضرب من القصة هو لرجالنا ونسائنا إذا قراؤه وتلهو به أشبه بإدخال أولئك الرجال والنساء - إدخالهم وإدخالهن على الكبر - في مدارس رياض الأطفال.

(الأطفال يستلذون الحكاية بالفطرة لأنها تجيئهم بالدنيا التي يعسر أن يذهبوا إليها أو يغامروا فيها، وتهيئ لهم أن يشعروا خيالهم قوة الخلق فتكون لذتهم على مقدار من بعد هذه الدنيا عنهم وعلى مقدار مثله من طبيعة العجز في خيالهم، وهذا الضعف في الناحيتين هو بعينه الذي يجعل لأكثر القصص شأنا عند سخفاء الناس وفراغهم، وأهل الحمق فيهم، يسعرهم شهوات وخيالات وأوهاما من الباطل، فذلك أذن ليس أدبا يكتب ويقرأ، بل هو بلاء اجتماعي يطبع ويوزع في الناس. . .

ألا ترى أن تلك الروايات توضع قصصا، ثم تقرأ فتبقى قصصا؟ وان هي صنعت شيئا في قرائها لم تزد على ما تفعل المخدرات تكون مسكنات عصبية إلى حين ثم تنقلب بنفسها بعد قليل إلى مهيجات عصبية؟!

وأنا لا أنكر أن في القصة أدبا عاليا، ولكن هذا الأدب الغالي في رأيي لا يكون إلا بأخذ الحوادث وتربيتها في الرواية كما يربى الأطفال على أسلوب سواء في العلم والفضيلة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>