هذا هو الوقت الذي ينتصف فيه الليل على الراقص المرح وهو يقصف هيمان بين ضحكات القلوب ومتع الأعين
وهذا هو الوقت الذي ينتصف فيه الليل على قاطع من قطاع الطرق عجيب، ينتقب بالظلام والمطر، ويتصدى لملاح مسكين يرتعد من البرد فيحطمه على الصخرة الهائلة التي تظهر فجأة؛ فيشعر المسكين - والموت يقطع َزويله وعويله - أن السفينة تنشق لتغوص، وأن اللجة تنفتح لتبلع؛ ثم يلمح في خاطره وهو يهوي في غيابة الفناء ولجة الماء ذكرى الحلقة الحديدية في رصيف المرفأ المشمس!
فزّعت هذه الرؤى العابسة قلب جاني فاضطربت اضطراب ليلها، واستكانت لجزعها وويلها، فلم ينفس عنها غير البكاء
- ٤ -
لله ما أشقاكن يا نساء الصيادين! إن مما يروع النفس ويلوع الفؤاد أن تقول كل منكن لنفسها:(إن أبي وحبيبي وأخي وولدي وكل عزيز عليّ هم جميعاً في ذمة هذا المضطرب العظيم؛ وإن القدر قد أباح للبحر الأهوج أن يعبث بهذه الرؤوس منذ كان المرء صبياً يتعلم، إلى أن يصير زوجاً يتزعم؛ وإنهم في هذه الساعة قد يحزبهم الأمر، ويكربهم الهم، فلا يدرون أين يسيرون، وهم لا يملكون لمقارعة هذه البحار اللجية التي لا قاع لها، وهذه اللجج المظلمة التي لا نجم فوقها، إلا قطعة من الخشب ومزقة من النسيج! فإذا ما اعتلج في صدرها الهم، هبت مذعورة تجري خلال الصخور وهي تسأل الأمواج ضارعة: (رديهم عليّ!!. . .)
ولكن وا أسفاه! ماذا عسى أن يرد البحر الذي لا يبرح في تقلب واضطراب، على الفكر الذي لا ينفك في تشتت واكتئاب؟
كانت (جاني) أشد هماً وغماً من ترائبها جميعاً؛ لأن زوجها وحيد في جوف هذا الليل الشديد وتحت هذا الكفن الأسود؛ وأطفاله لا يزالون صغاراً فلا وزر له فيهم ولا عون!
أيتها الأم! إنك تقولين اليوم وأنت ترين أباهم وحيداً: ليتهم كانوا كباراً! ولكنك ستقولين غداّ عندما ترينهم يذهبون مع الأب: ليتهم كانوا صغاراً!)