أخذت (جاني) مصباحها ورداءها وذهبت ترى: هل عاد الزوج، وهل سكن البحر، وهل أشرق الصبح، وهل ومض النور في سارية الإشارة؟
هاهي ذي تسرع الخطى في الطريق، ولكن هواء الصبح لم يهب، وضياء الفجر لم يلح. وكانت السماء تمطر؛ ولا تجد أشد ظلاماً من مطر الصباح! كأنما كان النهار يضطرب مخافة أن يوجد، وكأنما كان الفجر يبكي كالطفل ساعة يولد!
وعلى حين فجأة لاح لعينيها وهما تتحسسان الطريق كوخ واهي الدعائم قاتم الأعماق فلا نور ولا نار. له باب لا يستقر من الريح، وعليه سقف لا يسكن من القلق، ومن فوقه تعبث الريح الصرصر بهشيم من القش الأصفر الكريه المنظر؛ فقالت (جاني): (عجيب! ما لي لم أفكر في هذه الأرملة الفقيرة التي عثر عليها زوجي ذات يوم وهي وحدها تكابد غصص المرض؟! لا بد أن أعود لأنظر ما حالها!)
قرعت جاني الباب وتسمعت فلم يجبها أحد. فقالت لنفسها وهي تنتفض من البرد:(لا تزال مريضة؛ وأولادها، لا ريب، يقاسون سوء التغذية! لم يبق للمسكينة غير طفلين!) ثم طرقت الباب ثانية ونادت: يا جارتي! يا جارتي! فلم يرد عليها أحد.
فقالت جاني: لقد أثقلها النوم فلا لابد من تكرار الطرق ومعاودة النداء. ولكن الباب في هذه اللحظة أدركته نفحة من عناية الله فانفتح من ذات نفسه!
- ٦ -
دخلت جاني الكوخ المظلم الصامت ونور مصباحها يسعى بين يديها، فوجدت سقفه كالغربال لا يمسك المطر، ورأت في صدره امرأة هامدة لا نبض بها ولا حس! قدماها عاريتان، وعيناها مظلمتان، وهيئتها فظيعة. كانت هذه هي الأم المرحة التي قضت حياتها الأولى في بهجة وقوة، فلم تزل الأيام والآلام تعُركها وتريحها وتيريها حتى لم يبق منها غير هذا الهيكل. كانت إحدى ذراعيها قد تدلت على جانب الفراش الخشن، وكان فمها المغفور ينبعث منه الرعب بعد أن لفظ الروح وهي تصيح صيحة الموت إذا سمع نداء الأبد
وعلى مقربة من سرير الميتة كان طفلان ذكر وأنثى ينامان باسمين في مهد واحد. وكانت