وقد كان هذا أحد الأسباب التي حملت بعض الباحثين على أن يقف حيال مفردات اللغة العربية موقف الشك الذي وقفه آخرون حيال قواعدها. فزعم أنه لا يبعد أن يكون جامعو المعاجم قد خلقوا كثيراً من هذه المفردات خلقاً لحاجات في نفوسهم
وفساد هذا الرأي لا يكاد يحتاج إلى بيان
فلهجات المحادثة في جميع الأمم تقتصر في العادة على الضروري وتنفر من الكمالي، وتنأى عن مظاهر الترف في المترادفات وما إلى ذلك. ولذلك تتسع دائماً هوة الخلاف بينها وبين اللغة الفصحى في هذه الناحية فليست العربية فذة في هذا الباب، بل تشترك معها فيه جميع (لغات الآداب) أو (اللغات الفصحى) وإليك مثلاً اللغة الفرنسية الفصحى، أو لغة الكتابة، واللغة الفرنسية المستحدثة في التخاطب العادي، فالفرق بينهما في المفردات لا يكاد يقل عن الفرق بين العربية الفصحى واللهجات العامية الحديثة المتفرعة منها
أما جامعو المعاجم فيدلنا التاريخ وتدلنا آثارهم على شدة حرصهم على تحري الحق. فقد استخلصوا معظم ما اشتملت عليه معاجمهم من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن أحاديث الرسول عليه السلام، والآثار العربية في العصر الجاهلي والعصور الإسلامية الأولى، واستخلصوا بعضه من العرب المعاصرين لهم. وكانوا شديدي الحيطة في هذه الناحية إلى حد الإفراط. فكانوا يتحاشون الأخذ عمن تشوب عربيته أية شائبة. ولذلك كانوا لا يكادون يأخذون إلا عن عرب البادية لفصاحة ألسنتهم، وبعد لهجاتهم عن التأثر باللغات الأعجمية، وعزلتهم وقلة احتكاكهم بغيرهم. فكانوا يترقبون مجيء أعراب البادية إلى المدن في التجارة أو غيرها. . . فيستمعون إلى حديثهم ويناقشونهم في مختلف شئون اللغة، ويدونون من فورهم كل ما يهديهم إليه هذا الحديث وترشدهم إليه هذه المناقشة بصدد مفردات اللغة ودلالتها ووجوه استخدامها. وكانوا يتبعون أحياناً ما يسميه علماء اللغة بطريقة (الملاحظة السلبية) فيرحلون إلى البادية ويقضون فيها بين ظهراني الأعراب الأشهر بل السنين، يعاشرونهم ويستمعون إليهم في أحاديثهم الطبيعية، ويدونون ما يقفون عليه في هذا السبيل، وفي ذلك يقول أبو نصر الفارابي في كتابه:(الألفاظ والحروف): والذين عنهم نقلت اللغة العربية من بين قبائل العرب هم قيس وتميم وأسد، ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم. وبالجملة فإنه