لم يؤخذ عن حضري قط، ولا من لخم وجذام لمجاورتهم أهل مصر والقبط، ولا من قضاعة وغسان وإياد لمجاورتهم أهل الشام وأكثرهم نصارى يقرءون العبرية، ولا من تغلب لمجاورتهم للروم، ولا من بكر لمجاورتهم للقبط والفرس، ولا من عبد القيس وأزدعمان لأنهم كانوا بالبحرين مخالطين لأهل فارس والهند، ولا من أهل اليمن لمخالطتهم لأهل الحبشة والهند، ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة وثقيف وأهل الطائف لمخالطتهم تجار اليمن من المعنيين وغيرهم وقربهم من الجاليات اليمنية، ولا من حواضر الحجاز لأن ألسنة أهلها كانت قد فسدت حينئذ لإمتزاجهم بأمم كثيرة، ويقول ابن خلدون (وكانت لغة قريش أفصح اللغات وأحرصها لبعدها عن بلاد العجم من جميع جهاتها، ثم من اكتنفهم من ثقيف وهذيل وخزامة وبني كناية وغطفان وبني أسد وبني تميم. فأما من بعد عنهم من ربيعة ولخم وجذام وغسان وإياد وقضاعة وعرب اليمن المجاورين لأمم الفرس والروم والحبشة فلم تكن لغتهم تامة الملكة لمخالطة الأعاجم. وعلى نسبة بعدهم من قريش كان الاحتجاج بلغاتهم في الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية)
وما اتخذوه من وسائل الحيطة حيال القبائل والأمكنة اتخذوه حيال الأزمنة والعصور. فلم يأخذوا إلا عن العصور التي كان فيها اللسان العربي سليماً لم يصبه بعد تبلبل أعجمي ولا انحراف عن أوضاع اللغة الفصحى. ولذلك لم يأخذوا إلا عن عرب الجاهلية والإسلام إلى أواسط القرن الثاني الهجري بالنسبة إلى فصحاء الإحضار، وإلى أوائل الرابع بالنسبة إلى فصحاء البادية؛ وسموا هذه العصور (عصور الاحتجاج). وأهملوا ما عداها مبالغة في الدقة وحرصاً على تحري وجوه الصدق واليقين.
أما الأسباب الحقيقية لكثرة المفردات والمترادفات إلى الحد الذي وصفناه فيرجع أهمها إلى الأمور الآتية:
١ - أن طول احتكاك لغة قريش باللهجات العربية الأخرى قد نقل إليها طائفة كبيرة من مفردات هذه اللهجات. ولم تقف لغة قريش في اقتباسها هذا عند الأمور التي كانت تعوزها، بل انتقل إليها كذلك من هذه اللهجات كثير من المفردات والصيغ التي لم تكن في حاجة إليها لوجود نظائرها في متنها الأصلي؛ فغزرت من جراء ذلك مفرداتها وكثرت فيها المترادفات في الأسماء والأوصاف والصيغ، وأصبحت الحالة التي انتهت إليها أشبه شيء