الغريزة يكون أكثر وضوحاً في عهد الطفولة حيث ينظر الطفل إلى كل شيء نظرة الطامع فيه. ولعل ذلك يرجع إلى ضيق مدى تأمله وبصره بالأمور، أو تجرده من معنى الخير العام الذي لا يشتد أثره إلا بعد طول رياضة وعظيم دراية وبلوغ لتمام العقلية العامة!. . .
- ومن عجب يا ولدي أن الإنسان مع معرفته اليوم للخير العام وتشدقه بجليل منافعه، تراه منساقاً إلى طاعة هذه الغريزة بل الخضوع لها خضوعاً غلب على قلبه وعقله فأفسد معنى الخير فيها كما أفسد معنى الخير في غريزة المقاتلة، فما السر في ذلك؟ وكيف يصبح حاله وقد أدرك سرها؟
السر عندي. . . أن هناك بعض صفات كامنة في النفس، تغلف هذه الغريزة بغلاف يفسدها، فهناك الطمع والحسد والحقد والغيرة العمياء، تجعل من هذه الغريزة قوة قاهرة، وتفرض سلطانها على كل تصرفات الإنسان، فيندفع في سبيل رغباتها، وقد يخرج عن حدود الخلق ويتخطى الخير العام، ولكنه لا يستطيع سوى إرضاء تلك الغريزة الجامحة. . .
ومن هنا يكون الاعتداء على حقوق غيره، وابتزاز ما ليس من حقه، واختراع الأسباب والعلل لهذا الاعتداء وذلك الابتزاز!
- وثمة غريزة أخرى يا بني قد يكون لها الأثر الكبير في الحروب والميل إليها؛ وهي غريزة الهدم والتدمير، فإن الإنسان مشدود إلى مظاهر هذه الغريزة من يوم ميلاده، ولكنها أكثر وضوحاً عن الطفل لأنه لا يميز بين العمل ونتائجه، فهو فاقد للقياس السليم، لأن الحقائق لا توزن عنده إلا بميزان عاطفة الطفولة التي لا يهمها سوى إرضاء صاحبها على أية صورة كانت بالهدم أو البناء!!
وهي أيضاً موجودة في المجتمعات التي ظلت على فطرتها العمياء، وقد كانت من قبل في العهود المظلمة؛ ولكن إذا جاز أن يتصف بها الطفل لضيق تأمله أو انعدامه، فما يجوز أن تعلق بالرجل الكامل، فما السر في سيطرتها اليوم على العقل البشري؟
السر هو أن بجوار هذه الغريزة غريزة أخرى تشعلها كلما أصابها خمود، هي غريزة السيطرة، فصاحب هذه الغريزة يميل إلى فرض سلطانه على غيره، بل إلى فرض ميوله ومعتقداته. ولعل تضارب المذاهب المختلفة من ديمقراطية ونازية وفاشية وشيوعية