الهول، وبقيت مدينة عامرة بعد ما مات أترابها واندثرت منهن الآثار، وفيها تراكم تراث الأعصار، وإلى أهلها اليوم انتقلت مزايا كل من سكنها في سالف الدهر، ففي نفوسهم من السجايا مثل ما في أرضها من آثار التمدن وبقايا الماضي طبقات بعضها فوق بعض. . . فالحضارة تجري في عروقهم مع الدماء، وهم ورثتها وحاملو رايتها، وهي فيهم طبع وسجية؛ ولقد تكون في غيرهم تطبعاً وتكلفاً، فأي مدينة جمع الله لها من جمال الفتوة وجلال الشيخوخة كالذي جمع لدمشق؟
وأصعد جبل دمشق حتى تبلغ قبة النصر (التي بناها برقوق سنة ٨٧٧ للهجرة ذكرى انتصاره على سوار بك). ثم انظر وخبرني هل تعرف مدينة يجتمع منها في منظر واحد مثل ما يجتمع من دمشق للواقف عند قبة النصر؟ أنظر تر البلد كله ما يغيب عنك منه شيء: هاهنا قلب المدينة وفيه الجامع الذي لا نظير له على وجه الأرض - لا أستثني ولا أبالغ - وقبة النسر تعلو هامته كتاج الملك، بل كعمامة الشيخ، وهاهي ذي مناراتها التي تعد مائة وسبعين منارة، منها عشرون من أعظم منارات العالم الإسلامي، قد افتن بناتها في هندستها ونقشها، فاختلفت منها الأشكال واتفقت في العظمة والجلال، لا كمآذن بغداد التي لا يختلف شيء منها عن شيء، فإذا أبصرت منها واحدة، فكأنما أبصرتها جميعاً. . . يحف بذلك كله الغوطة الواسعة التي تبدو للناظر كأنها بحر من الخضرة قد نثرت فيها القرى التي تنيف على الأربعين عدا، أكبرها (دوما) ذات الكروم، (وداريا) التي تفاخر بعينها كل أرض فيها عنب، (وحرستا) بلد الزيتون ومنبت الإمام محمد صاحب أبي حنيفة، (وجرمانا) وهي حديقة ورد، وكفرسوسية، وكفربطنا، والأشرفية، وصحنايا، والمآذن وهي ماثلة خلال الأشجار، ووراء الغوطة سهول المزة عن اليمين، وسهل القابون عن الشمال، وبطاح من الأمام، وسهول تمتد إلى الأفق، حيث تغيب الجبال البعيدة في ضباب الصباح، ووهج الظهيرة، وصفرة الطفل، وسواد الليل. . .
إنك تشمل هذا كله بنظرة منك واحدة وأنت قائم مكانك، فأين يا صديقي القارئ ترى مثل هذا؟
وبردى؟ لما قدم شاعر العرب عاصمة العرب ومر على بردى وهو يمشي بين قصر أمية ودار البلدية مشية العاجز الهرم، قال له صاحبه مستقلاً بردى مستخفاً به: أهذا الذي ملأت