الدنيا مدحاً له؟ يظن صاحب شوقي أن النهر بكثرة مائة وبعد ضفتيه. ما درى أن بردى هو الذي يجري في الوادي زاخراً متوثباً نشيطاً لا الذي يجري في (المرجة) متهافتاً كليلاً، وأنه هو الذي أطعم دمشق الخبز، وهو الذي زرع بساتين الغوطة، وهو الذي أنار دمشق بالكهرباء وسير فيها وفي غوطتها (الترام)، وهو الذي لا تضيع قطرة منه واحدة على حين تمر دجلة على بغداد مر الكرام، تقرأ عليها السلام. . . ثم تحمل خيرها كله لتلقيه في البحر، لا تمنح بغداد منه إلا ما تأخذه بالمضخات والنواعير التي لا تسير إلا بمال. فمن رأى مثل بردى (في بره بأرضه وكثرة خيراته) نهراً؟ من ذاق أطيب من مائه؟ من أبصر أجمل من واديه؟. . .
لقد علم أبناءه الولع بالخضرة والظلال، وحبب إليهم أفانين الجمال، فصارت (السيران) من مقومات الحياة في دمشق لا تحيى أسرة إلا بها، ولا تستغني عنها، فهي لهم كالغذاء، فهل يستغنى عن الغذاء؟ هل يمكن أن يجيء يوم صائف من أيام الشتاء فتبقى دمشقية أو يبقى دمشقي في بيته لا يؤم (المهاجرين)، حيث يجتمع الشعاف والصخور وفي ظلال الآس الرجال والنساء على طهر وعفاف، وتدور أكواب الشاي (الأخضر) خمر المسلمين، وتنطلق بالغناء الساحر أوتار الحناجر وتجري خيول السبق في ساحة الجريد؛ ثم جاء وقت الصلاة قاموا إليها فلا ترى إلا جماعات وأئمة، ثم ينفض اجتماعهم عن طرب وفروسية وعبادة، وتلك هي المثل العليا لأهل الشام
وهل تمر أمسية من أمسيات الصيف على دمشقي قاعد في دكانه أو قابع في بيته؟ تعال انظر جماعاتهم في قهوات (شارع بغداد) وفي كل قهوة مؤذنها (إي والله) وإمامها. وعلى ضفاف بردى عند (صدر الباز) وفي (الميزان) أجمل موضع في دمشق، وأمامهم سماورات الشاي الصفر الرشيقة، وفي كل حلقة مغنيها، وليس مثل الشاميين في الولع بالغناء، فلا ينفرد الرجل بنفسه إلا غنى لها؛ فالفلاح وهو نازل من قريته مع الفجر يغني، والحوذي وهو يسوق عربته إلى (جسر تورا) أو إلى (كيوان) يغني، وأجير الخباز وهو يحمل المعجن على رأسه يغني، ونداء الباعة كله غناء وشعر. . .
قف ساعة على ظهر الطريق واسمع ما ينادي به الباعة تر عجباً لا شبيه له في البلاد؛ قصائد من الشعر غير أنها مرسلة القوافي، وطرائف من الغناء غير أنها محلولة القيود،