تمشي إلى القلوب طليقة حرة لا تسمى شيئاً باسمه؛ وإنما هي مجازات وكنايات، عجب منها بعض من كتب عن دمشق من سياح الإفرنج فتساءل في كتاب له عما نظم للباعة هذه الأشعار الرقاق! وتعال استمع هذا البائع وهو يتغنى بصوت يقطر عذوبة وحناناً (يا غزل البنات، يا ما غزلوك في الليالي، يا غزل البنات) ويضغط على (الليالي) ويمد (البنات)، هل يستطيع قارئ أن يؤشر يحرز ماذا يبيع هذا المنادي! لا لن أقول فتعالوا إلى دمشق لتأكلوا غزل البنات. . . وهذا بائع يهتف بكلمة واحدة لا يزيد عليها (الله الدايم) هل يقنع في حسابك أنه يبيع (الخس)، وأن (يا مهون يا كريم) نداء بائع (الكعك) عند الصباح، وأن من الباعة من ينادي بالحكم الغوالي كهذا الذي ينادي:(ويل لك يا ابن الزنا يا خاين) فيفهم الناس أنه بائع (الترخون)
أولا يشجيك ويثير سواكن أشجانك بائع العنب حين تدنو أواخره فينادي بصوت حزين (هدوا خيامك وراحت أيامك. ما بقى في الكرم غير الحطب يا عنب، ودع والوداع لسنة يا عنب) ألا تحس كأنه يودع حبيباً له عزيزاً عليه؟ وبائع العسل (أي الشمندر) وقد أوقد ناره في الصباح البارد، ووضع (حلته) وصفف رؤوس الشمندار الأحمر ونادى في أيام الشتاء (بردان! تعال صوبي بردان. . . أنا بياع العسل) ألا يجيب إليك أكل العسل؛ واسمع العجائب في نداء بائع الملفوف (اليخنا): (يخنا واطبخ، والجارية بتنفخ، والعبد عَ الباب، بِقلْع الكلاب) وبائع الحمص المسلوق (البليلة): (بليلة بلبلوك، وسبع جوار خدموك، يا بليلة)، وبائع الزعرور (أبيض أحمر يا زعبوب؛ تمر محنى يا زعبوب، البزر يا زعبوب)، واستمع إلى الشعر والخيال في نداء بائع الجرادق (يا ما رماك الهوا، وقلبي انكوى، يا ناعم). وبائع التين (دابل وعلى دبالك يا عيون الحبيب، ومن دباله يمشي لحله)؛ وبائع الباذنجان (أسود ومن سواده هرب الناطور) ألا تعجبك صورة الناطورة وقد هرب من سواد الباذنجان؟
وهذا كله كان من ولع الشاميين بالغناء وإقبالهم عليه حتى انعقد إجماع فقهاء الذوق فيهم على أنه يصيح اجتماع أو سمر إلا بالغناء؛ وإذا سها عنه ساه، فكفارته إطعام عشرة أصدقاء صدر كنافة شامية، أو صدر (كل واشكر) أو غير ذلك من الحلويات التي لا يخالف أحد في أن دمشق أبرع مدينة في صنعها. واسألوا محل (أسدية) في القاهرة، ومطعم