للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ثم كانت بينهما المناظرة الأولى في دار السيد أبي علي أحد الكبراء في نيسابور، فتناظرا في ارتجال الشعر مناظرة ظهر فيها غلب البديع وقد غضب من قطع الخوارزمي إنشاده عليه فصمت برهة، يقول الهمذاني: (ثم عطفت عليه وقلت يا أبا بكر أن الحاضرين قد عجبوا من حلمي، أضعاف ما عجبوا من علمي، وتعجبوا من عقلي، اكثر مما تعجبوا من فضلي، وبقى الآن أن يعلموا أن هذاالسكوت ليس عن عي، وان تكلفي للسفه اشد استمرارا من طبعك، وغربي في السخف امتن عوداً من نبعك، وسنقرع باب السخف معك، ونفترع من ظهر السفه مفترعك، فتكلم الآن. فقال لي أنا قد كسبت بهذا العقل دية أهل همذان مع قلته، فما الذي أفدت أنت بعقلك مع غزارته، فقلت: أما قولك دية أهل همذان فما أولاني أن لا أجيب عنه، لكن هذا الذي تمتدح به وتتبجح وتتشرف وتتصلف، من انك شحذت فأخذت، وسألت فحصلت واجتديت فاقتنيت، فهذا عندنا صفة ذم يا عافاك الله.

ذهب البديع إلى بيت الخوارزمي واصطلحا. ثم شاع بين الناس أن البديع غلب، فكتب الخوارزمي إليه يتهمه بأنه شاع هذا الكلام، ويقترح مناظرة أخرى، فكانت المناظرة الثانية في بيت الشيخ أبي القاسم الوزير. وحضرها عظماء نيسابور، وكانت مباراة الارتجال والترسل والنحو واللغة، وقضى بالفلج للهمذاني فلما خرج لقيه الناس بالتقبيل ولم يستطع الخوارزمي الخروج حتى جنه الليل.

وفي رسائل الهمذاني تفصيل المناظرة التي قضت له بالفلج. وينبغي أن لا ينسى القارئ أن هذا قول أحد الخصمين، ولست اتهم الهمذاني بالكذب الصراح، ولكني لا أبرئه من محاباة نفسه. ثم ينبغي أن نتذكر أن الخصمين ليسا سواء: أحدهما شيخ طائر الصيت يخشى أن يؤخذ عليه ما ينقص من قدره، والأخر شاب طامح إلى الصيت يريد أن يبني مجده على هزيمة قرنه، وهو لا يخسر كثيراً إن غلب، وهذا مظنة أن يستعظم الحاضرون ظفر البديع ولو كان قليلا وهفوة الخوارزمي ولو كانت مما يغتفر أمثالها. ثم أظن أن بعض النيسابوريين كانوا يحسدون الخوارزمي، ويودون أن يذهب بمجده ذلك الضيف الشاب الجميل الطلعة، الخفيف الروح.

وكان الخوارزمي، فيما يظهر متكبرا ذا جفاء، قليل الوفاء:

قال الصاحب بن عباد حين جاءه نعيه:

<<  <  ج:
ص:  >  >>