واستمر مرير الحرب، وانتشرت نارها ونحن لا نعرف مكانها إلا على السماع، وجعلت تطيف بلهبها بنا، وتدنو منا، فأمتد لسانها إلى مصر فجزعنا وأشفقنا وكنا مع المصريين بقلوبنا وألسنتنا، وما نملك لعمري إلا الألسنة والقلوب، ثم دنت منا فبلغ لهيبها العراق، فأقبلنا على العراق بقلوبنا وما جانبت مصر ولا تولت عنها تلك القلوب، ثم أصبحنا ذات يوم على صوت الراد (الراديو) يقول إن الحرب في (الكسوة) على أبواب دمشق، فنظرنا شطر القبلة فلم نجد على جبل (المائع) أثراً لحرب، فكذبنا وأنكرنا، فقال العارفون إن المعركة وراء هذا الجبال. وأكدوا ذلك ولكنا لبثنا مكذبين، فلم تكن إلا ليال حتى بدت في الأفق القبلي من دمشق ومضات المدافع وسمعنا أصواتها فصدقنا ما قال الراد، وأيقنا أن قد بلغتنا الحرب، ولكنا لم نكبرها ولم يصبنا الذعر منها، إذ لم تمسسنا نارها، ولا أحسسنا أوارها، ثم دنت منا النار، وانطلقت المدافع الثقال من قلاع (المزة) و (قاسيون)، فاهتزت لها دمشق ولكن أفئدة أهلها لم تهتز، فانطلقوا يؤمون (المهاجرين) يشرفون منها على المعركة وهي دانية منهم وأصواتها في آذانهم، وشظاياها عن أيمانهم وشمائلهم. وانهم لفي إشرافهم هذا، واجتماعهم في المهاجرين، عشية يوم الجمعة ٢٠ يونية، يتحدثون في عرض الجيش المهاجم على المقاتلين في دمشق كف أذاهم عنها، وتركها (مكشوفة) كيلا تعبث بمحاسنها أيدي الحرب، فتجعل عامرها يبابا، وقصورها تلال؛، وكيف أبى المقاتلون فعرضوا دمشق بإبائهم للأذى، وما يعنيهم أذاها، ولا تهدم لهم (إذا هي تخربت) دار يفجعون في زوج ولا ولد! وكانت المعركة مشتدة هذه العشية، وكان الناس مزدحمين ينظرون بجهنم قد فتحت أبوابها وإذا القنابل قد ضلت طريقها فإذا هي تساقط على (المهاجرين) أجمل أحياء دمشق وأبهاها، فطار الفزع بألباب الناس، وكانت ساعة الهول التي يستعاذ بالله منها، وصار الناس كحالهم يوم القيامة، حين يجد المرء ما يشغله عن أخيه وزوجه وبنيه؛ فخلفوا الدور مفتحة الأبواب، واستلموا منافذ الطرق، مهاجرين إلى (الشام) يعتصمون بالاموي، ويقيمون في جواره بعيدين عن مواقع القنابل التي تحمل الموت والدمار. فلا ترى على الطرق إلا الناس مسرعين بوجوه شاحبة، وأعضاء من الخوف مضطربة. وربما خرجت المسلمة المخدرة مكشوفة الوجه، والمدافع تنطلق، والقنابل تتتالى وتتعاقب، كالغيث إذا انهمر. . . وكان أمر لا يوصف!