ثم انسحب جيش، ودخل دمشق جيش، وأعلن استقلال سورية، وانتهت الحرب، فتنفس الناس الصعداء، وتذوقوا لذة الأمن بعد الخوف، ومن كان لجأ من الخوف إلى دمشق من سكان القرى المرزأة المروعة الذين أكلت الحرب دورهم وغلاتهم سكان:(الكسوة، والباردة، والأشرفية، وصحنايا، وسبنية، وسبينات، والقدم، وغيرها) من قرى الغوطة التي كانت تنعم بالأنس والدعة في ظلال الأشجار، فصارت صحراء قاحلة، لا شجرة فيها ولا دار. وديرا يا قرية العنب الديراني الذي تباهي دمشق المدن بلونه وطعمه ونبل حبته وجلال عناقيده واتساع كرومه؛ وجارتها المزة (جيزة دمشق) وأجمل ضواحيها، استعدوا للرحيل إلى دورهم ومساكنهم. . . يحسب المساكين أنها لا تزال لهم مساكن، ما دروا أن من هذه القرى ما لم يبق منه إلا أطلال ورسوم. . . وانطلق الدمشقيون الذين واسوهم في مصيبتهم، وآووهم في منازلهم يودعونهم بالحفلات والولائم. . . فاشتعلت الأحياء التي تحف بالأموي نوراً، وابتسمت سروراً:(القيمرية الكلاسة، وباب السلام، وباب البريد، وسيدي عامود)، حتى ليحسبها الرائي ترقص طرباً، وما بها لو حققت من طرب. وفيم الطرب؟ ولكن مواساة للمنكوبين، وتطييباً لقلوبهم، وإظهاراً للرضا بانطفاء نار الحرب، وحمداً لله على ما لطف وسلم، فكانت ليلة الأربعاء (٢٥ يونية)، كأنها من ليالي الأعياد. . .
وكان أسبق الأحياء في هذا المضمار (الكلاسة)، هذا الحي الرابض بين الحرمين الأقدسين: مسجد بني أمية الجامع، ومدفن البطل صلاح الدين (آخذ الدنيا ومعطيها)، كأنما سرى في أهله روح من روح صلاح الدين، فظهرت على أيدي أهله مدهشات الشهامة والكرم، حتى لقد آوى رجل منهم واحد سبع أسر في داره، وأولاهم من بشاشة وجهه وفضل ماله ومسكنه ما لا يمتد إلى اكثر منه جهد مثله. . .
- ٤ -
نام الناس هذه الليلة التي حسبوها من ليالي الأعياد آمنين لا يخافون الحرب وقد انطفأت نارها، ينتظرون بآمالهم الغد القريب ليحمل إليهم السلام والرخاء. فلما كانت الساعة الرابعة