(إلا ربعاً)، ومآذن دمشق المائة والسبعون تصدح (بالتراحيم) الأخيرة، ولم يبق دون الفجر إلا قليل، والليل ساكن سكون السحر الفاتن العميق. . . وإذا برجة لا توصف قلقت البيوت فذهبت بها وجاءت كأنها الزلزال العظيم، لولا أنها اقترنت بصوت أفاق منه الناس، وإن أجلدهم ليضطرب في فراشه اضطراب السمكة خرجت من الماء، ثم أعقبتها رجتان، ثم جاءت رجة أنست الناس الأوليات فحاروا وذهبت المفاجأة بألباب ذوي اللب منهم وخرجوا من بيوتهم يتراكضون، وما لأحدهم وجهة ولا مقصد. . . ثم انجلت الحال، فإذا هي طيارة لا يدري أحد موردها ولا مصدرها. . . ألقت قنبلتها الأولى على أكواخ في مزرعة عند (جسرتورا) فيها ثلاث أسر في كل أسرة منها أكثر من عشرة أشخاص، فأبادت الجميع، وما ثمة مطار ولا ثكنة ولا شيء مما يصح ان يكون لقنابل الطائرات هدفاً، وألقت الثانية على (باب السلام) من أسفل (الجزيرة) فهدمت أربع عشرة داراً (لا شقة)، والثالثة وقعت على الكلاسة فأبادت الحي كله؛ ولو زاحت عن موقعها عشرة أمتار من هنا أو هناك، لطارت بمأذنة العروس أو بقبر صلاح الدين، ورمت الأخيرة في الحي الجديد في (سيدي عامود)، الذي لم يكد يبنى بعد خرابه، حتى حمل إليه الدمار في الثانية من حمله في الأولى، وما في كل ما دمرت الطائرة ولا في جواره ولا قريباً منه شيء من المصانع والمواقع العسكرية البتة
وقع ذلك كله في أقل من خمسين ثانية، لم يمتد إلا ريثما اجتازت الطيارة من أول المدينة القديمة إلى آخرها، ثم توارت في الظلام كما خرجت من الظلام. . .
- ٥ -
أسرعت مع من أسرع إلى مطرح القنابل وبدأت من (سيدي عامود) فإذا القنبلة قد سقطت في وسط الطريق في ميدان صغير يتقاطع فيه شارعان، فاحتفرت حفرة هائلة، وتطايرت قطعها وشظاياها، فأصابت أربع عمارات جديدة مترعة بالسلع التجارية القيمة فضعضعتها وهدت أركانها وأدخلت بعضها في بعض، وأبادت كل ما كان من سلعة ومتاع، وأفقرت أسراً الله اعلم بعددها، وحطمت القنبلة كل زجاج الحي، وقتلت رجلاً وامرأتين - وذهبت من بعد إلى (الكلاسة) فإذا هذا الحي الآمن بأمان المسجد، القائم في حمى صلاح الدين، قد غدا تلاً واحداً كالقبر العظيم كأنه لم يكن منذ ساعات يبسم للحياة ويبسم له المجد، وكأنه لم