للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يكن منزل الكرام الصيد المحسنين. . . وكان الناس مزدحمين يعملون مساحيهم في هذه الأنقاض فيكشفون عما تتفطر لهوله القلوب، ويلقون من غرائب الحياة ومآسيها ما يخجل أكبر القصاص ويدفعه إلى حطم القلب، والنساء يولولن يسألن عن زوج ضائع أو ولد مفقود ويقعن على أرجل الكشافة والفعلة وأصحاب المساحي يسألنهم الإسراع بالكشف عمن افتقدن من أقربائهن، ومنهن من تقبل على التراب تنبش بيديها وهي تعد الدقائق والثواني تتصور الموت جاثماً على صدر من تحب، فإذا رأت أنها لم تصل إلى شيء وهالها الأمر، جن جنونها فأقبلت تلطم وجهها وتشد شعرها. والرجال. . . لم يكن الرجال بأجلد من النساء

وكيف يتجلد الرجل ويصبر وحبيبه تحت الأنقاض وكلما مرت لحظة دنا من الموت باعاً، كيف يصبر وهو يظن أن في يده حياته، وكيف يعيش من بعده إذا توهم أنه هو الذي قتله بتقاعسه عن إسعاده؟

إن الذي رأيت في الكلاسة من الفواجع والمآسي لا يقدر على وصفه لسان ولا قلم، والحفارون خلال ذلك يخرجون جثة من هنا وجثة من هناك، فينادون عليها ليعرفها من يعرفها. ولقد وجدوا جثثاً مشوهة لم يعرف أصحابها، ووجدوا ساعداً مبتوراً لم يدر من صاحبه. . . وهذه امرأة حديثها عجب من العجب؛ فقد كانت تنام بين ولديها فلما سمعت الرجفة نهضت وكل عرق منها يرتجف كأنه ريشة في مهب الريح فوجدت الظلام من حولها دامساً طامساً، فمدت يديها تتلمس ولديها فوقعت على الرضيع ولم تقع على الأخر، فتحسست مكانه فإذا يدها على جذع من الخشب وسط تراب منها، فنهضت كالمجنونة فاصطدم رأسها بشيء قريب حسبته السقف فازداد جنونها ولم تدر أهي في يقظة أم في حلم، فأخذت بيد ابنتها التي ما ينقطع بكاؤها وقبعت في فراغ وجدته. وكان ينتهي إلى سمعها صدى طرقات بعيدة كأنها آتية من قرار سبع آبار، ثم رأت حين ألفت عيناها الظلمة، كأنما هي في مغارة من مغارات الجن لا باب لها ولا كوة، ثم أنها من ضيقها كالقفص، فأقبلت تضرب بيديها ورأسها، والتراب يتساقط عليها حتى وجدت بصيصاً من النور، وازداد صوت الطرق وضوحاً في أذنيها، وتسرب إليها الهواء بعد أن كادت تختنق، فأغمي عليها ولم تفق إلا في المستشفى ورضيعها إلى جنبها، وولدها الآخر وزوجها تحت

<<  <  ج:
ص:  >  >>