وهذا هو الأستاذ المصور (أ. . .) يفتش عن ولده الحبيب، وقد جحظت عيناه من الذعر، وتبدلت حاله، وصار لون خديه كقشرة الليمون، وهو يستحث الحفارين، ويضرب بيديه التراب. . . هنا ابنه، ولده الحبيب! يا أيها الآباء! جاء به من المهاجرين يوم الروع ليودعه المكان الآمن عند جدار المسجد، عند قبر صلاح الدين. ومرت ثلاث ساعات كانت عليه وعلى المشاهدين كأنها ثلاثة عصور؛ ثم انكشف الردم عن نصف غرفة وإذا الولد فيها وهو حي، لكن ذراعه تحت الردم، وهو يصرخ: أبي، ارفعني، ارفعني يا أبي. فلما سمع الأب صوته وثب إليه يعانقه وهو يبكي، وكل عين ثمة تبكي. . . ولكن كيف يرفعه وفوق ذراعه كل تراب؟ وأقبلوا ينقلون التراب والولد يصيح صياحاً جعل أباه يفكر بإنقاذه ولو بقطع يده، أسمعتم؟ وانهم لفي ذلك وإذا بجذع يهوي على رأس الصبي فيقتله حالاً.
وهاهنا طفل رضيع يجدونه حياً يمتص من ثدي أمه الميتة. حقائق لو كانت خيالاً لكانت من أغرب الخيال
ولما انصرفت من (الكلاسة) أخذ بيدي صديق لي وأنا لا ابصر من الأسى والحزن طريقي فقال: إن ما رأيت ليس بشيء. إن أحببت أن تنظر إلى أفظع عدوان وأشقى ضحية وأروع مشهد، فتعال معي إلى باب السلام، فلقد أخرج منه إلى الآن (الضحى) سبعة وعشرون قتيلاً، فنترت يدي منه ولم أجب!
- ٦ -
وانجلت الغارة عن ثمانية وعشرين منزلاً أضحت خرائب وتلالاً وواحد وسبعين قتيلاً. ثلاثة أرباعهم من النساء والأطفال، ونحو خمسين جريحاً لا يكاد يعيش منهم أحد، ما قتل هؤلاء في المعركة الحمراء ولا سالت نفوسهم على ظُبي الأسنة، وشفرات السيوف. . . ولو واجههم العدو في حومة الوغى لوجدهم فرسانها وسادتها، ولكنه أخذهم غدراً وعدا عليهم وهم آمنون في فرشهم فأخذ الرجل من جنب زوجته وولده، أو قتلهم جميعاً لم يتورع عن قتل النساء، ولا عن ذبح الذراري، ولم يكسر عليهم الأبواب ويدخل دخول الغاصب القوي، ولكنه مر في السدفة الحالكة مرور اللص الجبان، فراغ عن مواطن الجندية ومنازل الكماة لأنه ليس من أكفائهم، وتخير هذه البقع الآمنة حول بيت الله فصب عليها كل ما في