للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تريدهم على أن يجدوا الربيع القاحل، والزهر الآفل، والريعان الماحل. . . إنها لتريدهم على الحزن، ولتضطرهم إلى البكاء حين تضحك السماء وتبتسم الأرض. . . لا تبالي هذه القلوب الساذجة الضاحكة، ولا تأبه لهذه النفوس الخيرة النبيلة، ولا يعنيها أن تلطم باليتم فتياناً عرفوا الحياة نعيماً وأملاً وجنة

يا ويح اليتيم. . . كان بالأمس ينشأ في أيام من الورد والسوسن، وفي أجواء من العطر والزهر، وفي دُنى من النعيم والسحر؛ ولكنه اليوم يغمض لهول المصيبة عينيه، ويصم أذنيه، ويطرق برأسه. فإذا أفاق وأصغى ونظر فلن يجد إلا الصحراء والظلماء والبأساء؛ لأن الدنيا عدت على عالمه الهانئ فذهبت بعطره وسحره، وعقت على جناته الناعمة فذهبت بورده وزهره، ودفنت عرائسه المائسات في قتام العاصفة، وتركت له أغصان الأسى ينثرها بيده على الهيكل الحبيب والقبر الخصيب

- ٥ -

لم أعد أستطيع أن اقرأ، لأن الدموع التي كانت تتقرح عنها جفوني غشت عيني، فإذا أنا أهيم في أودية مرعبة من الحسرة الممضة والألم العميق

وإني لألمح صديقي فما أملك أن أطيل النظر إليه والتأمل فيه. لقد عرته الدنيا من نعمة الأبوة، كما تعرى الزهرة الناشئة من أوراقها الخضر؛ فما يملك أن يرد عن نفسه المكاره العاديات.

لشد ما يبعث الأسى هذا اليتم المفاجئ في الليالي السود، ينتزع النعمة الرافلة، ويتعقب الهناء الوارف، ويبدد الحلم السعيد، ويسوق هؤلاء المساكين الفتيان وهم في غضارة الصبا وطراوة الشباب، إلى دنيا من الهموم والكآبات

ولكن لا عليكم أيها الشباب الذين يفقدون آبائهم في أحلى ساعات العمر وأجمل أوقات الحياة، ويتطلعون حولهم فلا يجدون القلب الذي ينهلون منه، والساعد الذين يتكئون عليه، والصدر الذي يدفنون وجوههم فيه، لأن الآلام المبكرة ليست إلا السحاب الجون يفيض أمطاراً ومياهاً ليغسل الأدران، ويطهر الأجواء، ويصفي النفوس

(القاهرة)

<<  <  ج:
ص:  >  >>