جاز لنا أن نوازن بين طوائف المعلمين في الاستعداد والاجتهاد لجاء الإلزاميون في أصحاب الكفة الراجحة؛ ذلك لأنهم بحكم تنشئتهم وإعدادهم يشعرون بالضعف والتخلف، فهم لا ينفكون يستفيدون ويستزيدون ما أمكنتهم الوسيلة والقدرة. ومن النادر أن تجد معلماً إلزامياً لا يقتني الكتاب المفيد ولا يشترك في المجلة النافعة. وأشهد أن ثمانين في المائة منهم مشتركون في ((الرسالة))، وإنهم ليقتطعون بدل اشتراكها من قوتهم النزرْ؛ ولكنك تجد الكثرة الكاثرة من حملة الشهادات والمذبات من المعلمين الثانويين والجامعيين لا يقرأون غير الكتب المقررة وما يتصل بها من قريب، ثم لا يجدون في أنفسهم حاجة إلى مطالعة كتاب أو قراءة مجلة.
المعلم الإلزامي والطالب الأزهري هما الشعاع المنبعث من نور الدين والعلم إلى القرية، ولولاهما لتدجى على القرى ظلام من الضلال والجهل لا يمتد فيه بصر ولا بصيرة. ذلك لأنهما يمايشان سواد الشعب وعامته من الزراع والصناع، فيوقظان فيهم العقل، ويحييان الضمير، ويعقدان الصلة الاجتماعية بين حياة المدينة وحياة القرية. ولو كان للتوفيق كرسي في الحكومة لاتخذوا من التعليم الإلزامي وحدة ثقافية تبرئ الفلاحين أطفالاً ورجالاً من الجهالة والمرض. كان من الممكن أن تعتمد وزارة المعارف على المعلمين الإلزاميين في تعليم الأطفال بالنهار، وأن تعتمد وزارة الشؤون الاجتماعية عليهم في تعليم الرجال بالليل؛ وإذن لا تنقضي بضعة أعوام حتى لاتجد في بلد الأميين والحفاة مَنْ ليس في يده كتاب ولا في رجله نعل. ولكن وزارة المعارف وضعت المعلم الإلزامي تحت الدرجة الأولى من السلم ثم نظرت إلى أعلى وتركته يكابد العمل الكثير بالأجر القليل: فهو يعطي ثمانية وأربعين درساً في الأسبوع، ويأخذ أربعة جنيهات أو خمسة في الشهر؛ وهو مع ذلك موضع البركة في تبكير الزواج وتكثير النسل، وعبدُ الثقافة بنشدان المعرفة وإدمان القراءة. فبالله ربك كيف يحسن عمله هذا البائس ونهاره مكدودٌ بعمل المدرسة وليله مجهودٌ بهم البيت؟ وكيف يقضي حياته هذا المسكين ومظهره مظهر الأمير وعمله عمل الأسير وأجره أجر الخادم؟ على أن أعجب ما في الأمر أن يؤدي عمله كاملاً على الوجه الذي رسم له، ويقضي حياته كريمة على النحو الذي يليق به، ويكمل نفسه بالاطلاع والدرس حتى نبه من أفراده كثيرون في التعليم والصحافة والآداب!.