فلصَدَقتم ولصُدِّقتم: أتينا مكذَّبا فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك. أوجِدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعةٍ من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار. ولو سلك الناس شِعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار. أللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار. فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله سماً وحظَّاً.
فلله هذه السياسة البارعة التي يتواضع فيها النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار هذا التواضع، ويقوم فيهم كأنهم فرد منهم، فيوازن بين ما قدمه لهم من حسنات، وما قدموه له من حسنات، ويجعل ما قدموه له مثل ما قدمه لهم أو أرجح منه، ثم يذكر لهم عظيم حظهم إذا عادوا به في رحالهم، وعاد الناس بما أخذوه من تلك الغنائم، فيقتلع من نفوسهم كل أثر لتلك الموجدة، ويجعلهم يبكون ندماً عليها أو فرحاً بعظيم حظهم.
ولو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمد على قواعد الدين ورسومه كما نجمد اليوم، لم يأخذ الأنصار بتلك السياسة البارعة بل وقف يؤنبهم على تلك القالة، ويذكر أن الإصرار عليها كفر ونفاق في الدين، وأنهم إن لم يتوبوا منها حل عليهم عذاب الله وحبط ما قدموه من حسنات في الإسلام.
ولكن مثل هذا لا يشقى النفوس العاتبة، ولا ينال به رضا الأصحاب عند عتابهم، وإنما يكسب رضاهم بافغضاء عن زلاتهم، وأخذهم بالرغبة واللين، لا بالرهبة والوعيد. وها نحن أولاد اليوم نأخذ الناس في ديننا بالتشديد والوعيد، ولا نأخذهم بالرغبة وحسن السياسة، ونقف جامدين أمام النصوص وألفاظها، ونغالي في الأخذ بالقواعد غير متأثرين بالظروف التي تحيط بها. ولا شك أن هذه مغالاة في الغيرة على الدين تضر ولا تنفع، وتنفر الناس منه ولا تجذبهم إليه، وققد خسرنا بها كثيراً ممن كان يمكن أخذهم بالرغبة وحسن السياسة. ومن الواجب أن نقلع عن هذا الجمود، وأن نأخذ الناس إذا زلوا بتلك السياسة التي سنها النبي صلى الله عليه وسلم.