للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الدنيا وفي الآخرة. ولهذا لا يستغرب أن ترى فضيلة عند فئة رذيلة عند أخرى والعكس بالعكس. كمذهب العري نعرفه رذيلة وعند أهله فضيلة.

لكن هناك قواعد وأحكاماً وعادات أجمع العالم على الجري عليها إجماعاً استقلالياً أو تقليداً، فهذه فضائل عالمية كونية عرفت منذ انبثاق الخليقة أنها فضائل كالصدق والعدل والتواضع والإحسان. هذه الفضائل كما شرحتها ترتسم في نفس الفرد وتنطبع في ذهنه بالتقليد والتلقين؛ ولا يورث منها إلا الميل لها، لأن ما يكتسب لا يورث. فيجد المرء نفسه في حظيرة الجماعة وتحت سلطتها وتأثيرها لا يستطيع أن يقوم بعمل مناف لما تمشت عليه، أو يفكر أو يقول مالا يروق في نظر الجماعة، ولا يشعر بالأثر إلى تجنب الرذيلة ويدفعه إلى عمل الفضيلة قبل إتيانها ويقرن العمل بالتشجيع على الإتمام ويلحقه بالطمأنينة واللذة النفسية - هذا الصوت هو ما نسميه بالضمير - الضمير الاجتماعي لأنه ليس إلا صدى لجلجلة القيود والأصفاد التي ترسف بها الجماعة. ويصح أن تسمى ما يقابل هذه القوة من قوة عنيفة مضادة سكبت في النفس البشرية مع القوة الأخرى ورافقتها في الحياة جنباً إلى جنب: هذه القوة يصح أن تسمى بالوسواس، وهو المذكور في قول الله تعالى: (قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس).

هذا هو الضمير الاجتماعي - بل هذا هو الضمير المطلق كما نعرفه عادة وتعرفه جمهرة العلماء؛ لكنني عرفته بالاجتماعي على اعتبار وجود ضمير آخر غير هذا الضمير؛ وهو الذي اصطلحت على تسميته بالضمير بالضمير الفردي المطلق، ذلك لأن الفرد قد لا يرتبط ارتباطاً عقلياً حراً مجرداً بما ترتبط به الجماعة من خير أو شر، فيستوي عنده خيرها وشرها، رذيلتها وفضيلتها، ويصبح طليقاً من هذه القيود الاجتماعية، لا يتأثر بما تتأثر به الجماعة من جميل أو قبيح تأثيراً تقليدياً غير منطقي. لأنه لم يتهيأ لبشر من الناس أن يميز الحدّ الفاصل بين الخير المطلق والشر المطلق غير الأنبياء. هذا الفرد - إن وُجد - عرفته الجماعة بميت الضمير - من حيث علاقته بها. وما كان في الحقيقة إلا حيّ الضمير - ذلك الضمير الروحي المستقل الذي قرّ في نفسه وركب في طبعه منذ أن عرف الحياة. وهو لا يختلف عن الضمير الاجتماعي من حيث أنه قوة مؤنبة، خفية عميقة في النفس. إلا

<<  <  ج:
ص:  >  >>