لو قلنا إن القسوة عجز وليست بقوة لما أخطأنا الدليل على ذلك من طبائع الأحياء التي عهدت فيها الضراوة وخلت طبائعها من الرحمة وما يماثلها.
فإن الوحوش المشهورة بالقسوة لا تعرف وسيلة غير البطش والضراوة لتحصيل العيش ومكافحة الأعداء، وكل بطش فهو إلى القوة الآلية أقرب منه إلى الخصال النفسية والملكات العقلية. فالفرق يسير بين صدمة الحجر وضربة الوحش من هياجه، فهي - أي القسوة - أدنى الوسائل التي لا وسيلة دونها، ثم تترقى وسائل الأحياء درجة بعد درجة حتى يكون استغناؤها عن القسوة بمقدار ارتقائها في تلك الدرجات.
ومن ثم يصح أن يقال إن القسوة عجز وفقدان وسيلة، وإنها من البدائيات التي يوشك أن تلحق بالآلة والجماد.
فالإنسان يقسو لأنه عاجز عن الرحمة، ولا يناقض قولنا هذا قول المتنبي:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفة فلعله لا يظلم
فإن بيت المتنبي معناه أن الظلم أيسر الوسائل وأقربها: أيسرها لمن لا يتيسر له ما هو أصعب منها. وهذا هو بعينه ما نذهب إليه حين نقول إن القادر على الصعب لا يهبط إلى ما دونه، وإن القادر على الرحمة مستغنِ عن التقتيل والتخويف.
إن الماء لا يحتاج إلى تدبير وإتقان لينحدر من الأعلى إلى الأسفل.
ذلك هو أيسر الطرق أمامه وأقربها إليه؛ ولكنه محتاج إلى التدبير والإتقان ليصعد من الأسفل إلى الأعلى.
فالظلم كانحدار الماء قريب؛ والرحمة كارتفاع الماء صعب ولكنه أدل على الاقتدار.
ومن آيات الطبيعة التي نستفيدها منها في هذا المعنى أن الرحمة تزداد في الأحياء كلما ازداد الشبه بينها وبين الإنسان في الغريزة الاجتماعية.
فالرحمة معروفة بين الحيوانات الاجتماعية في العلاقة بين والدها ومولودها، وفي العلاقات بين الفرد منها وسار أفرادها، وفي العلامات بينها وبين الآدميين.
ومؤدي هذا أن الرحمة وغريزة الاجتماع متلازمتان، فكيف تكون مرضاً وهي أصل من أصول الأخلاق الاجتماعية؟ وكيف يتركب في البنية ما هو مرض أو انحراف مناقض لأساس التكوين؟