على أننا خلقاء أن نميز بين الرحمة وبين الاضطراب الجسدي الذي يعجز صاحبه عن احتمال المؤلمات والمشقات، فيخور ويبكي حين يرى ما يؤلم أو يتعرض لما يشق عليه. وليس من الضروري مع هذا أن يرحم المتألم أو يعينه أو ينفعه بعطفه، وإنما هو عجز عن احتمال الآلام المشهودة كالعجز عن احتمال الهواء والاضطلاع بالمتاعب، وبين الرحمة وهذا النقص بون بعيد.
إن المرأة الهستيرية التي يغشى عليها حين ترى جريحاً يتألم، ليست بأرحم لذلك الجريح من الطبيب الذي يفتح جراحه ويزيده ألماً على ألمه
فالذين يزعمون أن الرحمة ضعف أو مرض، إنما يلتبس عليهم الأمر بين هذه الحالة الهستيرية التي هي ضعف، وبين الرحمة التي هي قوة، لأنها حماية لضعف الآخرين.
وإن الرجل الذي يبطش بالضعفاء لأقوى من الضعفاء؛ ولكن أقوى منه وأرجل منه وأرفع منه ذلك الرجل الذي يغلب الأقوياء لينقذ الضعفاء من أيديهم، ويريهم قوة أكبر من قوتهم، لأنها لا تكتفي بالقسوة على الضعيف، ولا تحجم عن زجر القوى، وزجره أحوج إلى القوة وأدل على الاستغناء.
وإنما رجل الدنيا وواحدها ... من لا يعوّل في الدنيا على رجل
نعم، وأرجل منه من يعول كل الرجال عليه، ومن يبسط جناحيه على كل من حواليه.
وآية أخرى من آيات الطبيعة في هذا المعنى أنك لا تجد مزدرياً بالرحمة إلا وهو محتاج إلى رحمة الرحماء.
(فردريك نيتشه): رسول القسوة وأكبر الناعين على الرحمة في العصور الحديثة، قد عاش سنوات ولا سند له في الحياة غير رحمة امرأة عجوز، وهي أمه!
وروى عن الوزير ابن الزيات أنه كان يقول: إن الرحمة خور في الطبيعة. فلما نكب وعذب بالتنور الذي كان يعذب به الناس إذا به يرثي لنفسه ويستدعي الرثاء لها ويجري في ضعفه أمثولة لمن يسترحمون الأقوياء والضعفاء، و (لم يزل - كما جاء في الطبري - أياماً في حبسه مطلقاً، ثم أمر بتقييده فقيد وامتنع عن الطعام، وكان لا يذوق شيئاً. وكان شديد الجزع في حبسه كثير البكاء قليل الكلام كثير التفكير. . . وكان قبل موته بيومين أو ثلاثة يقول لنفسه: يا محمد يا أبن عبد الملك! لم تقنعك النعمة والدواب الفُرْهُ، والدار