البتة، ولا تقدم به العمر، وكأنه في ريعان الشباب. . . هل يصدق إنسان أن كلينا ابن خمس وأربعين؟. . . تا لله إني لأبدو لعين الناظر في سن والده!. . . وقضى وقته يفكر في الوزير، في حاضره وماضيه، وفي صلته القديمة به. . . ثم اضطجع بعد تناول غدائه في بيته، وأشعل سيجارة، واستسلم إلى أحلام الذكريات. . . فألوت به إلى عهود الماضي المنطوي. . . إلى الوقت الذي كان يجلس فيه إلى يسار التلميذ (حامد شامل) على مقعد واحد، لا يكاد يفرق بينهما فارق جوهري. . . وكان التلميذ (حامد شامل) يلفت الأنظار إليه ببياض بشرته واحمرار شعره، وبملازمة عبد متهدم طويل يرتدي بدلة سوداء له في الطريق إلى المدرسة وفي طريق العودة، يتبعه كالظل إذا مشى، ويطمئن إلى مكانه إلى جانب حوذي العربة إذا ركب، ولذلك كان يحلو لرفاقه أن يداعبوه فدعوه (حامد اغا)، على أنه عجب غاية العجب كيف كانت المنافسة تحتد بينه وبين وزير اليوم وتلميذ الأمس كأنهما أخوا حظ واحد. . . والأعجب من هذا أنهما جريا معاً وراء تلك العاطفة - التي تهيج الجد والنشاط ولا تتسامى عن المرارة والألم - منذ أول عهد تجاورهما؛ وكانا في كفاحهما كأنهما يعيشان منفردين في فصل واحد، فكانت الغاية التي يهدف إليها كل منهما أن يتفوق على قرينه بغير مبالاة الآخرين. وعلى الرغم من استعانة حامد بالدروس الخصوصية يتلقاها على أنبه مدرسي المدرسة، فقد كانت الغلبة بينهما سجالاً، وكانت كفة جلال الراجحة. . . وكانا في ملعب كرة القدم مثلهما في الفصل لا يريحان ولا يستريحان. وكان كلاهما يزعم أنه أحق من صاحبه بقلب الدفاع. فكان مدرس الألعاب يعاقب بينهما فيه، حتى بدا تفوق جلال للجميع فاستأثر به، فكان آخر عهد الآخر بلعب الكرة. يا لله!. . . كانا يستبقان كأنما الدنيا تضيق عنهما معاً، وكأنما كان مستقبلهما ينذر بحرب مستعرة تشمل ميادينها الجد واللعب والإدارة والوزارة. فكيف شالت كفته بعد ذلك؟؟ كيف سقط من عيون الغربال وضاع في الحثالة؟. . . كيف صار رفيقا المقعد الواحد أحدهما وزيراً والآخر مراجعاً بالحسابات ينوء صدره بآلام الحاضر ووساوس المستقبل!
ثم تمتم قائلاً وهو يطفئ سيجارته ويرمي بالعقب إلى المنفضة: تا الله ما يستحق أن يكون وزيراً ولا وكيل وزارة ولا شيئاً من هذا، وخشي أن يكون متجنياً عليه أو مائلاً مع عواطفه القديمة فتساءل باهتمام وجد كأنما يزمع كتابة ترجمة له كيف اعتلى كرسي