الوزارة؟. . . لقد انفصلا في نهاية الدراسة الثانوية فاضطر هو لأسباب إذا ذكرها جرت المرارة في فمه، إلى الانقطاع عن الدراسة والتحق صاحبه بمدرسة الحقوق، ثم حصل على الليسانس، وكان أبوه محمد باشا شامل وزيراً للحقانية فعينه سكرتيراً له في الدرجة الخامسة، فكانت القفزة الموفقة الأولى. وقرأ بعد ذلك في الصحف أنه اختير لبعثة في فرنسا لا يعلم كم أمضى بها ولا ما حصل عليه فيها من الإجازات، ولكن كثيرين يعلمون بزواجه بعد ذلك بسنوات من كريمة المرحوم حامد باشا حامد الذي تولى الوزارة مرات، فارتقى فجأة إلى الدرجة الثالثة مديراً لإدارة التشريع، وانقطعت عنه أخباره فترة وجيزة حتى علم بتوليته مديرية أسوان، ثم بترقيته محافظا ًللقنال بعد ذلك بقليل، ثم باختياره وزيراً للمعارف، ومضى على توليته الوزارة أسابيع والمجلات لا تكف عن الإشادة بمواهبه القانونية ومقدرته الإدارية ومشروعاته عن إصلاح التعليم، وكاد جلال أفندي أن يصدق ما يقال لولا أنه قرأ مقالاً عن تفوق الوزير في عهد الدراسة - في العلم والرياضة البدنية معاً - وكيف أن مفتشاً من مفتشي الوزارة تنبأ له على أثر مناقشته بأنه سيكون يوماً وزيراً، فأغرق الرجل في الضحك، وقال ساخراً:(الآن فهمت سر المواهب القانونية والإدارية!)
وتنهد جلال أفندي رغيب وتمتم قائلاً:(دنيا!)، وأراد أن يريح نفسه من أفكاره فتناول مجلة يقلب صفحاتها المصورة؛ والظاهر أن ذكريات الوزير كانت تأبى أن تفارقه، فرأى صفحة من المجلة مخصصة للوزير تتوسطها صورة كبيرة؛ ما إن بصر بها حتى صاح في دهشة وغرابة (رباه هذه صورة فصلنا القديم) وألقى عليها نظرة سريعة فثبت بصره على صورته وكان يقف في الصف الأول وراء المدرسين مباشرة إلى يمين الوزير ينظر إلى عدسة المصور في ابتسام وثقة؛ وكان الوزير كالعابس وعلى حاجبه الأيمن ذبابة، فضحك جلال طويلاً وذكر قصة الذبابة، وقد كانت في الأصل من نصيبه هو وتنبه لها والمصور يهم بالتقاط الصورة فهشها بسرعة فطارت عنه إلى حاجب قرينه وحطت عليه؛ وقد أحس أسفاً لذبة الذبابة فلعلها كانت ذبابة الحظ السعيد سكنت إلى وجه الوزير المدخر؛ ورنا إلى الصورة بعينين حالمتين فهامت روحه في آفاق الماضي حتى شعر بأن روح الطفولة تحل فيه مرة أخرى، وأن شعيرات قذاله البيضاء تسود، وتجاعيد جبينه وما حول فمه تلين،