ونظرة عينيه تصفو وترق، ويمسح على ما فيها من هم وبلبال. . . أحس قلبه يخفق مرة أخرى بالأمل والطمأنينة، وجرى بصره على الوجوه الصغيرة وهو يتساءل: ترى كيف صار هؤلاء جميعاً؟. . . وعاين أول صورة في الصف الأخير فعرف صاحبها بوضوح غريب، وذكر اسمه (عبد الملك حنا)، وذكر كيف كانت تنتابه نوبات الصرع في الفصل حتى انقطع عن المدرسة. . . أما بقية الصف فتذكر وجوههم وغابت عنه أسماؤهم ومصايرهم؛ وعرف في الصف الثاني وجهاً كأنما تركه بالأمس؛ كان ابناً لأحد كبار المستشارين فكان يتمتع لذلك بنفوذ وصوله فيحييه الناظر إذا بصر به، ويلاطفه المدرسون، وقد علم فيما بعد أنه عين وكيلاً للنيابة وترقى قاضياً، ولعله يتأثر الآن خطى أبيه الكبير. أما من يليه من الصغار فجلهم من المغمورين وبعضهم معه في المعارف وهو يعرفهم حق المعرفة، وأما آخر هذا الصف - الذي ينظر إلى المصور بتحد غريب ويشبك ذراعيه على صدره - فكان من أشقياء التلاميذ المولعين بالشجار والتصادم، وقد طرد من المدرسة لاعتدائه على أحد المدرسين. ومن العجيب أنه احترف فيما بعد (البلطجة)، وطاف بالسجن مرات. وألقى نظرة أخيرة على الوجوه الأخرى فلم يعرف عنها شيئاً إلا الدكتور المعروف (حنا عبد السيد)، وإلا هذا الذي يتوسط الصف الأول، كان أنبغ التلاميذ جميعاً، وكان أول الابتدائية ثم أول البكالوريا والتحق بمدرسة الحقوق كبير الهمة سخي المواهب، ولكنه أصيب أول عهده بها بداء اصدر فاضطر بعامين ترك المدرسة والكف عن التحصيل، واشتغل بعد ذلك بعامين كاتباً في الصحة. . . فلا يقل حظه شذوذاً عن حظ الوزير نفسه.
نال كل منهم نصيبه وخضع لحكم حظه وسعيه. كانت تجمع بينهم جدران واحدة، لا يكاد يتميز وراءها إنسان إلا بجده وخلقه، ففرقت بينهم الحياة، فرفعت وخفضت، وأحيت وأماتت، وأذاقت الفقر، ومتعت بكرسي الوزارة، وكل بما قسم له غير راض ولا قانع. . .
ونظر جلال أفندي عند ذاك في الساعة فوجدها تدور في الرابعة، فعلم أن موعد الصغار آن واقترب، وإنهم عما قليل يملئون البيت حياة وقلبه نوراً، فرمى بالمجلة بعيداً وطرد من عقله الوسواس ليستقبلهم أجمل استقبال، وقال لنفسه متعزياً:
- من الخطأ أن يفكر الإنسان في شئون الناس ما دام هذا لا يورث إلا الضيق، وحسبي أن