للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

لقد قام صلاح الدين بالمهمة التي تلقاها من سيده وأستاذه نور الدين محمود فأداها على أحسن وجه بعد أن انقض على الجيش الفرنجي في معركة حطين (صيف سنة ١١٨٧) وسحقه سحقاً، ثم استرد البلاد من أيديهم الواحدة تلو الأخرى، واسترد بيت المقدس، فدخلها صلحاً وعامل الفرنج بمنتهى التسامح والشفقة والرحمة، فكان مثالاً ممتازاً للحاكم العادل والقائد الظافر المتصف بالشهامة والمروءة؛ وكأنه بتسامحه ومروءته وشهامته يريد أن يلقي درساً في الأخلاق العالية والشفقة والرحمة على أولئك السفاكين والقتلة الذين ذبحوا سبعين ألف مسلم ذبح الخراف حين احتلوا المدينة المقدسة

ولقد كان في نيته وفي مكنته أن يطهر البلاد منهم نهائياً، لو لم تغتله المنية قبل الأوان، فترك مهمة التطهير النهائي إلى خلفائه من بعده

على أن الجهاد الذي أستأنفه خلفاء صلاح الدين ظل قائماً نحو عصر كامل آخر، وذلك لأن ذلك الجهاد لم يكن متصل الحلقات بل كانت تنتابه فترات يتقاتل ويتطاحن خلالها الأمراء والسلاطين المسلمون.

فقد تخاصم الملك العادل مع أولاد أخيه صلاح الدين وتقاتل سائر الأمراء الأيوبين، فكان لنزاعهم الأثر السيئ في نفوس المسلمين، إذ ضعفت همتهم وانحطت شوكتهم وقلَّت قيمتهم، وهذا ما مكن الفرنج من إطالة الإقامة والحكم في إمارتهم اللاتينية الهزيلة. على أن التقاتل هذا لم يكن يقتصر على الحكام المسلمين، بل تناول أيضاً أمراء الفرنج في إمارتهم، فكان يشتد بين الفرنسيس والإنكليز والألمان، وبين البنادقة وتجار جنوة، وبين رهبان طائفتي الداوية والإسبتالية. وفي ببعض الأحيان كان ينقلب ذلك الخلاف إلى حرب طاحنة تذهب فيها الأرواح الصليبية بلا حساب

والفرنج الذين كانوا يأتون حديثاً إلى الأرض المقدسة كانوا يختلفون مع إخوانهم القدماء من اللاتين المقيمين في هذه البلاد وذلك بسبب الفروق البارزة في عادات وتقاليد كل من الفريقين. فالمشارقة منهم مضى عليهم اكثر من عصر وهم يعيشون في ديار الشرق ويقلدون الشرقيين في مأكلهم ومشربهم ومسكنهم؛ وصاروا ينظرون إلى مسلمي سوريا نظرة الجار إلى جاره، فيتعاقدون معهم، ويبادلونهم السلع، ويراعون حقوقهم وعهودهم، وذلك بخلاف حملات الفرسان التي كانت تدهم البلاد بخيلها ورجلها وتعصبه الذميم وقوتها

<<  <  ج:
ص:  >  >>