ويحرص على هذا كله برغم ما يقتطع من مرتبه الشهري الذي لم يزد على سبعة جنيهات ونصف جنيه من يوم أن عين في وظيفته. وهو راض بذلك يعيش منه في جو من الغرور وخيال العظمة يعزله عن وسطه وزملاءه ويجعله أحيانا مبعث دهشتهم وأحيانا موضع نكاتهم.
قلبه يحمل إلى جانب ذلك حبا يملكه كأقوى ما يمتلك الحب، وهوى يعذبه كأشد ما يعذب الهوى. فإذا به وهو ممسك بصورة محبوبته يقلبها بين يديه في مناجاة ذليلة، وضعف ينسى فيه نفسه ويتخيل الحبيبة كل شيء، طالما أوصد على نفسه باب حجرة نومه الصغيرة. واخرج الصورة من حرزها الحريز في خزانته ولبث ينظر إليها في ذهول حتى يغيب عن وجوده عن حجرته، ويعود في ذكرياته إلى أيام الدراسة ثم إلى أيام العمل الأولى في القاهرة. فيرى نفسه وقد ذهب محملا بالأماني غارقا في الأحلام إلى منزلها ليزور والدها واخوتها، حاملا إليهم تحيات أسرته الصديقة كان ينتهز لذلك فرصا كثيرة. وكان يقابل هناك بكثير من الحفاوة للصلات القديمة المتينة التي تربط العائلتين. وكانت تأتي (هي) لتحيته فيقوم لها وقد سرت في جسمه هزة سريعة ينهزم لها قلبه، وينعقد لسانه، وتتسمر عيناه، إلا أن الابتسامة التي كانت تنطبع على شفتيه دون وعي كانت تحجب عن الأنظار كثيراً من ذلك. ثم يجلس مفكك الأوصال كما يعتدل في فراشه المريض الناقه بعد أدوار الحمى القاسية. ويمضي الزمن سريعا سريعا فيستأذن ويخرج مهيض الجناح ملتاع القلب. يذكر ذلك وفي يده الصورة فينهال عليها بفمه الملتهب يقلبها في حرارة، ويرفع نظره عنها ويثبته في السقف وهو لا يرى منه شيئا. ثم يرسل تنهدة عميقة، ويقوم في تراخ فيفتح صوانه ويضع الصورة حيث كانت. ثم يعود إلى سريره يستلقي عليه في فتور وإعياء.
هذه الصورة عزيزة عليه يحتفظ بها ويحرص عليها كل الحرص لأنها لم تصل إلى يده إلا بعد عناء شديد، شاركته فيه أمه عندما سافرت لرؤيته في مصر، فأعملت حيلتها في تبادل الصور بين الاسرتين، ولم تظفر بها إلا بعد جهد ورجاء في الزيارة الثانية. وقد تشجعت - بعد إلحاح أبنها الشديد - على أن تشير في سرعة وغموض إلى أملها في أن تتصل بينهما أواصر صلة قريبة. وكم اطمأن قلبها عندما لمحت حمرة الخجل تشيع في وجه (رسمية) وابتسامة المجاملة تبدو على ثغر والدتها!