كل هذه الذكريات كانت تطيف بكامل كل يوم قبل أن يأوي إلى فراشه، وعندما يخلو إلى الصورة العزيزة يناجيها ويتنهد من أقصى رئتيه، لا يستطيع التفكير في مصير أمله الغامض.
لم يسافر إلى مصر من عهد أن نقل منها، وقد أرسل خطابا إلى (عمه) رأفت بك والد رسمية يعرفه فيه حاله، ويتجه بتحية إلى الأسرة جميعها. وورد إليه منه رد رقيق يتمنى له فيه الراحة ويبدي استعداده لخدمته فيما يريد. وقد استحى بعد ذلك أن يكتب إليه مرة أخرى، ثم هو لا يعرف طريقا يقربه من غرضه. فوق انه لا يعتمد على شيء لهذا الغرض إلا على الصداقة القديمة بين أبيه وبين رأفت بك. وهو لا يثق كل الثقة في أنها تكفي بعد أن بعدت الشقة واصبح رأفت بك موظفا كبيرا، نشأت رسمية على حياة راقية وآمال واسعة. كما انه لا يثق من مساعدة أبيه له لنفس هذه الاعتبارات، ولذلك يؤثر إلا يكاشفه بالأمر في رغبة ورجاء استبقاء على أمله أن يتبدد من اقرب الناس إليه.
كانت تؤلمه هذه الخواطر حين ينتهي في تفكيره إليها فيحاول أن يبعده عنه فلا تببتعد، فيعلق نفسه بخيوط من الأماني. لعله يوما أن يكتسب عطف رأفت بك، ولعله يوما أن ينعم بحب رسمية. أليس شابا مستقيما؟ أليس وسيما أنيقا؟ وتحمله هذه التعلات من مكانه فإذا به أمام المرآة ينظر إلى نفسه ثم يبتسم لها ويعود إلى فراشه. ويسلم أفكاره إلى الهواجس ثم إلى النوم حتى الصباح.
حان موعد قيام القطار فدوى صفيره في الفضاء، ثم انطلقت أنفاسه المحبوسة، وتحرك في خفة وهدوء، وارتفعت أصوات المودعين، واخذ القطار يبتعد عن الرصيف شيئا فشيئا، واخذ المودعون والمسافرون يلوحون بمناديلهم في الهواء. ثم أغلقت النوافذ، وتتابعت المناظر من خلال الزجاج في سرعة عظيمة.
وجلس الدكتور أمين ممسكا بيده المجلة العلمية التي ابتاعها واخذ يقلب صفحاتها ليعرف موضوعاتها وكتابها. ثم وضعها إلى جانبه وسبخ في خياله. هو اليوم يعود إلى القاهرة منقولا إليها بعد أن فارقها من سنتين،. فارق فيهما حريته الواسعة وأصدقاء الدراسة، واندمج فيهما بالتقاليد الاجتماعية، التي ينفر منها، ولكنه لا يجد مفرا من الخضوع لها. سيعود إليها الآن شبه غريب فقد تفرق زملاءه، واصبح هو مقيدا بعمله وواجباته. ولكن