القاهرة هي القاهرة على كل حال، ولابد أن فيها كل امرئ راحته وسعادته.
اتسعت أحلامه وذكرياته فقام من مكانه ومد يديه إلى الإمام ثم إلى الخلف في بطئ واسترخاء مالئا رئتيه من الهواء المنعش البارد كمن يود أن يستجمع نشاطه المتفرق. ثم سار في بهو العربة الخالي ينظر أحيانا إلى الركاب اللاهين في أحاديثهم أو صحفهم، أو المسلمين أنفسهم إلى سنة خفيفة من نوم أو تفكير، سار مرات في ذهاب وجيئة لم يتعد العربة التي هو فيها، ثم خطر له أن يجتاز مركبات الدرجة الأولى إلى عربة الأكل ليتناول فيها فنجانا من الشاي. فسار سيرا وئيدا في ممرات العربات التي يسودها سكون لا تسمع فيه قرقعة العجلات، ولا صفير القاطرة. وانقلب تفكيره وخياله إلى حال من العظمة والشعور بالكبرياء. وسمح لآماله أن تسبق الزمن فتراه طبيبا شهيرا جمع إلى ذيوع الصيت ثروة ضخمة تؤهله أن يكون دائما من رواد هذه العربات الفاخرة دون أن يكون دخيلا عليها. ثم تسرب فكره وخياله إلى نواحي العظمة الأخرى فتصور الضياع والقصور، وتخيل رحلة لذيذة في الصيف إلى خارج القطر يمثل فيها مصر في مؤتمر دولي طبي. وكان قد استند قليلا إلى إحدى النوافذ وإذا بيد تنزل على كتفيه في ملاطفة وتنبيه، فالتفت سريعا وملأت وجهه ابتسامة شاكرة، ثم مد يده مسلما في احترام ولين.
- إلى أين أنت مسافر يا دكتور؟
- إلى مصر يا بك فقد نقلت إليها للعمل في المصلحة
- عال. إذن ننتظر منك أن تزورنا كثيرا. فأنت من الآن طبيبنا الخاص. أليس كذلك؟
- بكل سرور يا بك، ولي الشرف
- العفو يا دكتور. وكيف حال عمك؟ ألم تزوره حديثا؟
- كنت عنده في الأسبوع الماضي وهو في صحة جيدة ولو انه يعلم بهذا النقل لأوصاني أن أزور سعادتكم وأن أحمل إليكم أطيب تحياته.
- وكيف حال كامل ابنه فإني لم أره منذ أن نقل من القاهرة بعد تعيينه بمصلحة التلغراف.
- بخير يا بك. وسأمر عليه اليوم لأراه.
- إذن أنت لا تسافر فوراً إلى مصر في هذا القطار؟
- سأتخلف عنده ساعتين، وأصل أن شاء الله مصر في هذا المساء.