والكتاب الواحد يطالعه القارئان فيستفيد أحدهما منه ما لا يقدر بمال، ويخرج الآخر من قراءته ولم يأخذ منه ما يساوي ثمن ورقه
والمكان الواحد يقصده زائران فيرجع أحدهما بالصحة والمعرفة والثروة، ويرجع الآخر منه بالمرض والضلال والإفلاسوقد تفتحت عيناي على هذه الحقيقة منذ أيام الطفولة، فشهدت في بلدتي التي نشأت فيها التقاء الحضارات القديمة - والحديثة، والتقاء الأمم من غربية وشرقية؛ وكان يزور أسوان في الشتاء ألوف السائحين منهم الأمريكي والإنجليزي والفرنسي والألماني والنمسوي، وأبناء الأمم الأوربية كافة، فكانت أوروبا عندي على اجتماعها في كلمة واحدة صوراً مختلفات لا تتفق في مشارب ولا أطوار ولا عادات
وكنت أسمع العجب من اختلاف الآراء في سن يعجب فيها الإنسان من كل مشهود ومسموع، فلا أعجب ولا أحار أن عجبت، لكثرة ما تعودت من نقائض الأفهام والأحكام
زار أسوان أمير إنجليزي كبير، فخرج في الظهيرة إلى حيث يلعب (التنس) مع فئة من صغار الموظفين والضباط، وشهدت مجلس والدي في المساء وأنا معجب بالأمير الحر الظريف، فما سمعت تأففاً من شيوخ المجلس كالتأفف الذي سمعته منهم تلك الليلة، وهم يعيبون على الأمير لعبه (أولاً) ونزوله في اللعب إلى مرتبة الصغار من الموظفين (ثانياً)، وخلعه ملابس الإمارة ليظهر في لباس العامة (ثالثاً)، وما شئت من مآخذ شتى: رابعاً وخامساً وسادساً إلى غير انتهاء
وكان (العقلاء) يضحكون من هؤلاء الأوربيين الذين يبلون أحذيتهم أو ينضون مطاياهم في الجبال ليرجعوا منها بكيس ملآن حجارة وحصيات تلقى في عرض الطريق، وكنت أرى هذه الحجارة في متحف المدرسة، فأحسبها كنزاً من الكنوز المكنونة، أو أحسبها على أقل تقدير لها موضوع درس ممتع مفيد
وكان المنقبون في الآثار القديمة من عامة الناس يهزءون بالعلماء الذين يعطونهم الذهب ويأخذون منهم خرقة بالية أو حلية مكسورة أو ورقة ممزقة، وكنت أسمع في دروس التاريخ كل أسبوع أن هؤلاء العلماء رابحون مفلحون، وأن الخاسر الحقيق بالاستهزاء هم أولئك الجهلاء المستهزئون
وازددت علماً بالدنيا وبنيها، فكأنما اجتمعت الزيادة كلها في توكيد هذه الحقيقة الجامعة