أصبح طاغور اليوم اسماً مخلداً في تاريخ الفكر البشري يعرفه الناس - معرفتهم لسقراط وسبينوزا وبرجسون - من مؤلفاته التي تربو على الثلاثين مجلداً وقفها بأجمعها لنصرة الراية التي انضوى تحتها: راية المحبة والسلام في الأرض
ولو أن طاغور لم يقدر له أن يسبق عصره الذي جاء فيه بمئات السنين - إن لم نقل بألوفها - لرأى ساعة استشهد في ذلك الميدان علائم الظفر وبشائر الفوز ورجحان الكفة التي وقف نفسه للكفاح من أجلها كفاح يقين وإخلاص وثبات؛ ولكن سبقه عصره بهذا الأمد الطويل الذي تحتاجه البشرية للتخفيف من غلوئها في محبة القوة والدعوة للهدم أشقى طاغور كثيراً وآلم نفسه وأرمضها، ولكنه عجز عن أن يزعزع يقينها الثابت بالنصر آخر الأمر. وإن ما نرى من استبشاره وحبه للحياة، وتغنيه بما فيها من جمال وسحر، ودعوته إلى عبادة ذلك الجمال وقوله:(أفسحوا لي مجال العيش في نور الشمس في هذه الروضة الزاهرة بين القلوب النابضة)، إنما كان مصدره ذلك اليقين وحده
ولو أن طاغور كتب له أن يعيش في المجتمع المثالي الذي كان يريد بناء مجتمعنا وإصلاحه على نحوه، ولم يقاس في ذلك ألم خيبة الدعوة المبكرة لما اضطر إلى خطاب دعاة الحرب بقوله:(إن صح أن تكون الحقيقة الثابتة الأزلية الكبرى هي شهوة التدمير والتخريب فقد كان لزاماً على هذه الحقيقة أن تعصف بذاتها فتميد بها وتحطمها شر تحطيم) وقوله أيضاً: (إنما تفضح قوة السلاح ضعف الإنسان) وإنما الذي أنطقه بهذا، وشبهه كثير، ما رأى من بعد الحقيقة المادية عن المثالية التي حاول توجيه البشرية إليها قبل أوان ذلك بعصور وعصور
عرف الناس طاغور لشيء واحد لم يعرف فيلسوف قبله لمثله: عرفه الناس لأنه شرقي هندي حاز جائزة نوبل وبذَّ مفكري الدنيا بأسرها في مضمار الدعوة للسلام، وقد قرظه مجمع (ستوكهولم) الذي منحه تلك الجائزة بقوله: (إن شعره مثابة النفوس يشمل جميع خلجاتها ويعرب عن جميع مطامحها). ولقد كان طاغور أغنى الناس عن إشادة (استوكهولم) بفضله والتنويه به؛ ذلك لأن حكمته السامية التي لخصت حكمة الشرق العريق وأجملتها، ما كانت لتحتاج إلى مثل هذه المظاهر والأحكام لتبدوا آثار صحتها. وإذا كان لذلك المجمع من فضل، فليس له على طاغور من ذلك شيء، وإنما يده التي أسداها كانت